samedi 8 septembre 2007

قصّة : فيضان



فَيَضان

مرت سنة على استقرارنا بالحي، وذات ليلة من ليالي الشتاء، أخذ المطر في التهاطل بدون توقف، وكانت عائلة أحمد مجتمعة كعادتها في ليالي القرّ حول الكانون (الموقد). التصق الولدان بأبيهما تحت عباءة صوفية ثقيلة، واحتضنت آمنة طفلها الرضيع تحت عباءة أخرى. عمّ الصمت فجأة حينما انبعثت من جهاز الراديو موسيقى الجينيريك لبرنامج "حكايات العروي"، لا تصطحبها إلاّ رشقات المطر على النوافذ وزفير ريح عاتية وقرقرة "برّاد" الشاي فوق الكانون.

"كانْ يا ما كانْ، في سالفْ العصر والزمان، أميرْ اسمه علي ولْد السلطان..." وداهم سلطان الكرى أعين آمنة والطفلان، ولم يبق ساهرا مع "العروي" إلاّ أحمد مدخنا سيجارته ومترشّفا الشاي.

فجأة، استفاقت آمنة واضطرب الأطفال على صخب وحركة وأصوات متداخلة تنبعث من مكبر صوت في الخارج، وكان أحمد قد استسلم بدوره للنوم. هزّت آمنة ذراعه وهي منزعجة:

- أحمد.. أحمد.. أفق! ما الذي حدث؟

تململ أحمد وقام ببطئه المعهود. تلفلف بالعباءة واتّجه نحو الباب. وما هي إلاّ دقائق معدودات حتى عاد مسرعا وعلى وجهه ارتباك:

- هيّا! ألبسي الأولاد ولنغادر البيت.. لقد فاض "واد مليان".. والمياه على وشك أن تداهمنا.. هيّا أسرعي!

- إلى أين؟ أين سنذهب تحت هذه الأمطار؟

- رجال المطافئ بالخارج.. إنّهم يطلبون من الجميع مغادرة بيوتهم واللّجوء إلى مدرسة "فرحات حشّاد" فهي ذات طابقين..

في الخارج تشكّل خيط مضطرب من الناس؛ اجتثّ معظمهم من النوم اجتثاثا وأُلقي بهم في أتّون الخوف والحيرة.. ظنّوا أنّهم في عداد الهالكين، فغادروا بيوتهم على عجل: هذا وجد نفسه على قارعة الطريق وهو بملابس النوم، وذاك لم يتسنّ له أن يضع حذاءه فخرج وإحدى رجليه حافية. أمّا الأطفال : فمنهم من اشتدّ بكاؤه، ومنهم من تشبّث بأهداب أمّه خوفا من تأخذه الغيلان فتبعده عنها إلى الأبد. كُنتُ بين هؤلاء الأطفال، وكنّا قلّة منهم قد خيّم علينا نوع غريب من الهدوء، ربّما كان يخفي بعض الإثارة والحماس لما يحدث. فالاتجاه ليلا إلى المدرسة، ولأيّ غرض؟ لقضاء الليلة هناك! مع كل أفراد العائلة.. ومع أبناء الجيران.. وربّما يكون ذلك داخل فصلنا بالذّات.. هذا شيء مثير جدّا.. سُرِرتُ لهذا الأمر، وطغت فرحتي المكتومة حتى على الخوف من المياه الجارفة الزّاحفة وراءنا كجيش متلاحم من الغيلان المفترسة.. لأوّل مرّة سنكون داخل فصل دراسي ولكن بدون رهبة من الحظور المخيف للمعلّم بعصاه الغليظة المرعبة.. سنلعب داخل الفصل بين صفوف الطاولات.. سنجلس على مكتب المعلّم.. سنكتب ونرسم كلّ ما نريد بالطباشير على الصبورة..

في المدرسة لم نجد في استقبالنا غير الحارس وبعض من رجال المطافئ وجدران الفصول الباردة.. وَعَدُونا بأغطية صوفيّة وبفُرُش وبالقهوة وبحليب للأطفال وبالخبز وبالجبن..

- "ستأتي المؤن بعد ساعة على أكثر تقدير.."

فانتظرنا ساعة.. فساعات.. انتظرنا إلى انبلاج الصبح.. ولم نر شيئا. حتى أحلامنا باللعب داخل الفصل بدّدها البرد، وما لبث الأطفال أن لجئوا إلى أحضان آبائهم وأمّهاتهم بحثا عن الدفء.

في الصباح، توقفت الأمطار عن التهاطل، و أفسحت السحب الدّاكنة المجال، شيئا فشيئا، لشمس خجلى، فأُذن لنا بالعودة إلى بيوتنا، منهكين من ليلة طويلة كسنة قحط. لم تداهم المياه حيّنا. قالت أمي:

- هذا من لطف الله..

وأضاف أبي:

- لقد توقّفت المياه عند "الديك"*.

سألْته:

- وما "الديك"؟

- ذاك الحاجز التّرابي الذي أقيم زمن الاستعمار.. ملاعين! لقد كانوا يقرأون لكلّ شيء حساب.

خلال اليوم، تناقلت الأنباء غرق العديد من العائلات الفقيرة المنتشرة أكواخها خلال البوادي المحاذية للواد.. وبعد مدّة من الزمن شاهد أهالي حيّنا أغطية صوفيّة وملابس وأحذية وأنواع من الجبن والحليب خارجيّة الصنع، وقد كُتب على الأكياس والكراتين التي تحتويها:"إعانة من الشعب الأمريكي لمنكوبي الفيضانات"، تُباع وتُشترى في الأسواق.

*من الفرنسيّة digue وهو الحاجز الترابي.

Aucun commentaire: