mardi 30 octobre 2007

"والنخلة أرض عربية.."



"والنخلة أرض عربية.."

قصة قصيرة بقلم سعيد محمد الجندوبي

إلى مظفر النواب.. هناك مع الخالدين

حدائق فيلاّ بورقيزي, روما, صائفة سنة --198


ككلّ خميس, غادرتُ شقّة السّيّدة روزانا بلاّلونا على السّاعة الثّانية بعد الزّوال. كان كلّ شيء على ما يرام. تناولتِ السّيّدة ذات الثّلاثة وسبعين خريف, الغداء وكذلك جرعة وبضعة حبّات من دوائها اليومي, ثمّ اصطحبتها نحو مكانها المفضّل, أريكة وثيرة قبالة التّلفاز. كانت على مقربة من يدها اليمنى, طاولة صغيرة وُضع فوقها آخر ما أفرزته التّكنولوجيا الحديثة من وسائل الاتصال بالعالم الخارجي: الهاتف, آلة التّحكّم عن بعد, للتّنقّل عبر قنوات الشّاشة المتعدّدة, وكذلك زرّ أحمر يمكنها عند الضّغط عليه تنبيه رجال النّجدة, إذا ما اقتضى الأمر ذلك.
قبل مغادرة الشّقة, ألقيتُ نظرة أخيرة على المطبخ. كان كلّ شيء في مكانه. الصّحون مغسولة, وكذلك بقيّة الأواني. وحوض الإينوكس ينمّ بريقه على أعلى درجات النّظافة. أنا فخورة بنفسي اليوم...
في الشّارع الطّويل فيال ديلّونيفرسيتا, توقّفتُ برهة عن السّير أمام المحطّة وتساءلتُ بتردّد: "هل أنتظر الباص, ربّما لعشرين دقيقة أخرى؟ ثمّ إنّه قد يأتي مكتظّا!... لا, سأمشي... أريد أن أفقد المزيد من الكيلوغرامات".
وهكذا انسابت رندا, عبر شوارع المنطقة الجنوبيّة لمدينة روما, تلك الشّوارع الأنيقة, العريضة, الهادئة. وما أن وصلت إلى مدخل الحديقة الضّخم, حتّى اتّجهت عبر طريق طويلة وملتوية إلى مكانها المفضّل: مقعد خشبيّ داكن الخضرة, يقع تحت شجرة زيزفون فارعة غصونها, وارفة أوراقها, مغدقة بجانب وافر من ظلالها على البحيرة فتكاد تلامسها.
خلعت رندا حذاءها ذو الكعب المتوسّط العلوّ, ومدّت ساقيها الطّويلتان إلى الأمام, وأرخت برأسها إلى الوراء, كأنّها تحاول أن تتمطّى سرا. وضعت بجانبها على المقعد كتابا مغلقا, وأغمضت عيناها في لحظة استرخاء تسبق الغوص في بحر الحروف والكلمات. كانت بين الفينة والأخرى ترفع رأسها, لتتحرّر من عمليّة فكّ تلك الرّموز الصّغيرة السّوداء, فتضع الكتاب على صدرها وتترك لعينيها حرّيّة اللّعب مع أشعّة الشّمس الذّهبيّة المنعكسة على مياه البحيرة.
لاحظت, خلال التفاتة عفويّة نحو الجانب الأيمن, وجود شابّ جالس مثلها على مقعد قبالة البحيرة, تفصله عنها بضعة أمتار. كان هو الآخر يمسك بكتاب؛ ولكنّ الشّيء الذي استرعى انتباهها أنّه كان يسترق النّظر إليها. فكلّما توقّفت عن المطالعة, أغلق هو الآخر كتابه, وفعل ما كانت تفعله: تأمّل ذلك الامتداد المائي. وبينما كانت رندا منغمسة في القراءة, غير آبهة لما حولها, أخرجتها نبرة رجاليّة من أحلام الكتاب. اقترب ذلك الشّاب منها وبغمغمة التّردّد والخجل ألقى عليها السّلام:
- "بُوُون دجيورنو سينيوريتا!
- بُووُن دجيورنو.
- هل يزعجكِ أن أجلس بجانبكِ؟"
نَظرتْ إليه بنوع من الغرابة, أتبعتها ببسمة غامضة, ثمّ أفسحت له مكانا على المقعد قائلة:
- "لا!.. هذا لا يزعجني.. إنّه مقعد عمومي".
"تُرى ماذا يمكن أن يكون حكمها على ما أنا بصدد فعله؟ هذا عربيّ آخر يحاول بطريقة ركيكة معاكستي! أنا متأكّد أنّها تفكّر كذلك في هذه اللّحظة"...
بالفعل, لم يكن تخمينه بعيدا كلّ البعد عمّا كان يجول بخاطرها. لم ييأس. استجمع كلّ ما أوتي من شجاعة وقال لها:
- "أَ.. هل.. هل أنت عربيّة؟"
وكانت رندا قد عادت إلى كتابها.
- "نعم! وهل يخفى هذا؟"
فوجئ الشّاب بسرعة الجواب وبحَدّته القاطعة, وأخذ يفكّر فيما يمكن قوله.
كانت رندا بالفعل, ذات ملامح جليّة العروبة. شعر غزير يكاد سواده يستحيل, تحت أشعّة الشّمس, إلى نوع غريب من الزّرقة الداكنة. حاجبين أسودان فُطرا على دقّة وجمال الرّسم, تنبعث من تحتهما نظرات يتخلّل السّواد فيهما حدّة وسحر لا يمكن مقاومتهما إلاّ بتجنّب النّظر فيهما بدون إذن مسبق.
- "أنا أيضا.. عربي".
واصلت رندا القراءة كأنها لم تسمع ما قاله.
- "هذا بالفعل يوم من أيّام الصّيف.. أليس كذلك؟
- نعم!
- هل أنتِ طالبة؟
- نعم!
- الظّاهر أنّي أزعجتكِ.. إذا أردتِ أن أذهب, فسأفعلُ ذلك؟
- هذا شأنكَ! " ثمّ أضافت بنبرة أكثر هدوء: "لستَ بمزعجي.."

استشفّتْ رندا, بحسّها الأنثوي الثّاقب, من ارتباك وخجل مخاطبها أنّ نيّة المعاكسة, حتّى وإن وُجدت لديه, فهي لطيفة ومهذّبة وشديدة الخفاء. فاستفزّته قائلة:
- "أنتَ كعشرات من أمثالك, ممن يرون في كلّ فتاة منفردة, عصفورا قابلا للاصطياد. أليس كذلك؟"
احمرّ وجه الشّاب ووجم عن الكلام.. فهو في قرارة نفسه لا يعتبر ما قالته بعيدا عن الواقع. ولكنّه أجابها مبتسما ومحاولا إخفاء اضطرابه:
- "لا! المعذرة.. أنتِ في هذا مخطئة... فأنا لا أريد معاكستك فضلا عن إزعاجكِ.
- كن صادقا ولو للحظة... لماذا تحاول تجاذب الحديث مع فتاة لا تعرفها ولا تعرفك؟
- هك.. هكذا.. لا لشيء.. صدّقيني.. أنا لست من هواة معاكسة الفتيات. وفي كلّ الأحوال فأنا لا أحسن فعله!
- فعلا في هذا أصدّقك!" وانسابت على شفتيها ضحكة مزيجها السخرية اللّطيفة المازحة والاعتذار عليها. وابتسم الشّاب أيضا.
- "إذا لم تكن بصدد معاكستي فما الذي جاء بك إذا؟
- تريدين الحقيقة؟
- لا أريد غيرها
- كنت أقرأ قصيدة لشاعر عربي, لا أدري إن كنتِ تعرفينه, ووصلتُ إلى هذا البيت: "والنّخلة أرض عربيّة..." وفجأة رفعتُ رأسي فرأيتكِ تستعدّين للجلوس على مقعدكِ هذا, فقلت لا شعوريا: "وأنتِ أرض عربيّة"! ضحكتْ رندا وسألتْ:
- "من الشّاعر؟
- مظفّر النّواب... شاعر معاصر, من العراق... إنّه شاعر ملتزم.
- لم أسمع به قبل اليوم... أعترف بأنّ ثقافتي الأدبيّة محدودة جدّا...
- ومع هذا أراكِ تحبّين المطالعة.
- أتظاهر بذلك... حتّى أبدو مثقّفة!"

انقطع الكلام بينهما, وساد صمت لا يقطعه إلاّ الحوار الجميل الدّائر بين سكّان الحديقة من العصافير المتعدّدة الأعراق والأجناس, يؤمّن له خرير شلاّل اصطناعي صغير نوعا من الإيقاع المتواصل. في غمرة هذه الأجواء السّنفونيّة, أنطلق من شفتيهما في ذات الوقت, السّؤال نفسه:
- "ما اسمكَ؟... ما اسمكِ؟"
وضحك الاثنان ضحكة صافية, بريئة, متواصلة. كلّما حاول أحدهما التّوقّف عن الضّحك, والاعتدال في الهيئة من جديد, إلاّ واستفزّه منظر الآخر وهو يبذل نفس الجهد.
* * *
مرّت ساعتان أو أكثر, وهما على نفس الحال. وضعا كتابيهما على جانب من المقعد وانغمسا في أحاديث لا نهاية لها, ولا موضوع يربط بينها, تتخلّلها بين الفينة والأخرى ضحكات بريئة, فانقباض أسارير, فدموع تترقرق في عينيهما, فصمت, فضحك من جديد, وهكذا إلى أن نُبِّها من قِبَل حرّاس الحديقة بأنّ الأبواب ستغلق بعد ربع ساعة.
"- يا إلهي لم نشعر بالوقت يمرّ!"... قالتها رندا متأوِّهة وهي تضع حذاءها.

في الباص, لم يتبادلا الكثير من الكلام. اكتفيا ببعض النّظرات المسترقة, المتعجّلة, والجاهلة لما تريد, والّتي تنتهي أحيانا بابتسامة منقذة.
نزلت رندا عند محطّتها, وواصل الشّاب رحلته. امّحت كلّ الصّور من مخيّلته, إلاّ صورة رندا وهي تودّعه, بصوتها العذب, قائلة قبل أن تُغلَّق أبواب الباص:
- "تشاو.. مع السّلامة.. لا تنسى!
- لا أنسى!؟.. ماذا؟
- النّخلة!
- آه.. والنّخلة أرض عربيّة.. "


vendredi 26 octobre 2007

Une patrie… et des cigarettes au détail

Une patrie… et des cigarettes au détail

Une nouvelle de Ahmad Sikkal (Maroc)
Traduite de l’Arabe par Saïd M. Jendoubi


C’est maman qui a demandé le divorce. L’état de mon père a atteint un degré qui ne suscitait que dégoût…


Tous les jours, les enfants du quartier accompagnaient mon père jusqu’à la maison. Ils l’accueillaient avec une chansonnette, toujours la même, et beaucoup de cailloux :


« Ô chrétien poursuis ton chemin,
Ce pays n’est pas le tiens
Ô ivrogne,
Rapiéce-habits
Tu n’as pas honte, c’est vendredi »


Je ne vous cache pas que mon extrême jeunesse et l’atonie de mes rapports avec mon père faisaient que je me joignais à la bande, et que je répétais toute gorge déployée, la même chansonnette avec mes camarades de la rue.


Lorsque j’ai eu huit ans, l’état de mon père s’est aggravé ; je me demandais alors, si j’avais le droit de le conspuer avec les autres enfants… Il est vrai que je ne le connaissais qu’à travers le surnom « Rapièce-habits », mais c’était, tout de même, mon père. Certes, il ne m’a pas inscrit à l’école, mais il m’a introduit à la grande école de la vie, pour s’éclipser, par la suite, sans s’enquérir auprès de celle-ci de mes nouvelles, ni même s’assurer du devenir de mon intimité.


C’est maman qui a demandé le divorce. Mais, mon père, au lieu d’accepter, il est parti. Aujourd’hui, lorsque j’actionne la machine à mémoire, les voix et les images me parviennent toutes ambigües : la ribouldingue de mon père, la prostitution de ma mère et la misère de frères, avec qui je ne partage guère la paternité. Le « Qui suis-je ? » m’exaspère, et je ne trouve de réponse digne en réponse aux interrogations des gens.


Mon père est reparti dans son pays, au-delà de la mer. Et maman, je la vois des fois avec le ventre gonflé sans que je ne lui demande qui est le père. Quand je la vois légère, je ne pose pas de questions sur le rejeton. Et quand je ne la vois pas, je me demande comment se nourrissent mes frères et de quoi les élève-t-elle. À propos de mes frères, les voisins jurent qu’ils ne sont pas du même père.


Maintenant, mes clients croient que j’ai atteint mes dix-huit ans d’âge. Alors je pense au passeport et, avant cela, à m’inventer un faux nom de famille, que porteront mes documents officiels, pour que je puisse prendre le large à la recherche de mon père. Pour que je fasse revenir mon exilé de nom de famille. Pour qu’enfin, je fasse revenir mon identité.


Entre mes mains, des paquets de cigarettes «Winston » et «Marlboro », me rappellent qu’il n’y a pas de temps à s’assoupir… «Alors, mieux vaut la vie… WinstonMarlboro

WinstonMarlboro… »


وطن وسجائر بالتقسيط

قصة قصيرة
احمد السقال




أمي هي التي طلبت الطلاق منه
, كانت حاله قد وصلت حدا يبعث على الاشمئزاز..

كان أطفال الحي يزفونه يوميا إلى البيت حين يعود مساء, النشيد واحد والحجارة أعداد:
وا النصراني سير بحالك, هاذ البلاد ماشي ديالك"
وا السكايري بو رقعة , غير احشم نهار الجمعة "
لا أخفيكم , من فرط طفولتي وفتور علاقته بي , كنت أنا أيضا أنضم إلى الكوكبة وأصيح بأعلى صوتي مرددا
نفس النشيد مع أصحابي في الدرب.
كانت حاله قد ساءت أكثر لما بلغت الثامنة من عمري,, صرت أسال نفسي هل يحق لي الصياح مع الأطفال
ضدا على أبي؟..حقيقة كنت لا أعرف له اسما غير بورقعة" , ولكنه أبي . لم يدخلني المدرسة ولكنه أخرجني
إلى المدرسة الكبرى ,واختفى دون أن يسال الأيام عني أو يطمئن على مرد وديتي..
أمي هي التي طلبت منه الطلاق لكنه عوض التطليق,سفر نفسه. واليوم حين أضغط على زر تشغيل الذاكرة ,
تأتيني الأصوات والصور غير واضحة ,عربدة أبي وعهر أمي وبؤس إخوة لا أشاركهم صلب الأب ..أسال نفسي
من أنا ولا أجد جوابا أعتد به حين يسألني الناس,,
أبي عاد إلى وطنه وراء البحر , وأمي أراها أحيانا وبطنها منتفخة ولا أسأل عن الأب , وحين أراها خفيفة" لا
أسأل عن المولود , وحين لا أراها أسال نفسي مم تقتات وبم تعيل إخوتي" الصغار والذين يقسم الجيران إنهم
ليسوا من صلب أبي.
الآن يعتقد زبنائي أنني بلغت الثامنة عشرة من عمري , ولذلك أفكر في جواز سفر , وقبله في اسم عائلي مزيف
أحمله على الوثائق لأركب البحر بحثا عن أبي , وأعيد الاسم العائلي المهجر , أعيد الهوية.
علب سجائر ونستون" ومارلبورو" بين يدي تنبهني ألا وقت لغفوة…حيا اذن على الحياة
ونستون مارلبورو
ونستو ن مارلبورو



dimanche 21 octobre 2007

النّعش : قصّة

النّعش

بقلم سعيد محمد الجندوبي

استفاقت حوريّة وأنفاسها تكاد تنحبس من هول الكابوس المرعب الّذي أقضّ مضجعها. كان جسمها يرتعش ويتصبّب عرقا.. لم يعاودها النوم، فمكثت في فراشها منتظرة انبلاج الصبح حتّى تُفضي بكابوسها إلى أمّها. هكذا تعوّدت منذ الصّبا..

رأت فيما يرى النّائم مجموعة من النّاس تحمل نعشا، وتمشي به وسط مكان قفر، وفجأة ثارت زوبعة تحمل رمالا حمراء كلون الدّم، تبعها تساقط رذاذ أحمر، سرعان ما لطّخ ملابس وعمائم الرّجال من أصحاب النّعش، في حين لم تلمس قطرة واحدة كفن الميّت المسجّى وسطهم. توقّف الرّجال، ووضعوا النّعش أرضا، ثمّ تحلّقوا حوله، فيما يشبه الدائرة، من دون أن ينبسوا بكلمة واحدة.. وما هي إلاّ دقائق معدودات حتّى انبرى الميّت واقفا. فقام أحد الرجال، وكان أكبرهم سنّا، وقد أضاءت وجهه لحية طويلة بيضاء، ففكّ رباط الكفن، وقفل راجعا إلى مكانه ليجلس من جديد.. تساقط الكفن أرضا، فإذا بها فتاة في مقتبل العمر، ارتدت فستانا أبيضا طويلا كفساتين العرائس والأميرات، في حين انساب شعرها الأسود الطويل المتموّج على كتفيها وعلى جزء من وجهها النّاصع البياض.. لم تكن ملامح الفتاة قاطعة الوضوح..

استعاذت الأمّ من الشيطان وتشهّدت ثمّ قالت لابنتها وهي تربّت على يدها المرتعشة: "فأل خير إن شاء الله.. هذا عرس.. ربّما عرسك أنت يا حوريّة.. فالأحلام تُؤوّل بالخلاف.."

***

المكان: مقبرة تكاد تكون مهجورة على مقربة من قرية صغيرة من القرى الجبليّة بشمال غرب تونس.

الزمان: شتاء سنة 1972.

انتهت مراسم الدّفن، وتفرّق الجمع الصّغير بعد أداء واجب العزاء لعائلة الميّت، في حين انشغل القرّاء في تقاسم أجرتهم بعد أن قاموا بمهمّتهم بكلّ مهنيّة. وضعوا النّعش الفارغ على ظهر الشاحنة الصّغيرة، وانطلقوا عبر طريق ترابي وعر، تتخلّله برك وأوحال شتاء الشمال القاسي.

تنفّس السّائق الصعداء حينما وطئت عجلات شاحنته إسفلت الطريق الرابط بين "عين دراهم" و"فرنانة"*.. حمد الله على ابتعاده عن المسالك الترابيّة بأوحالها وحفرها، بدون عوائق ولا مكدّرات. قطع السّائق الصّمت متذمّرا:

- الله يهديهم! لماذا لم يدفنوه في مقبرة البلدة.. هناك في "فرنانة".. متحمّلين كلّ هذه المشقّة؟

- لقد كانت تلك رغبته، رحمة الله عليه.. أراد أن يُوارى الثّرى تحت سدرة "سيدي يحي" العتيقة، على مقربة من أهله.. جلّ أولاد "منَوِّرْ" يرقدون هناك..

- الله يرحمهم .. أجمعين..

خيّم الصمت من جديد.. وحدها "البيجو 403"، استرسلت في الشخير..

كانت الطريق في تلك المناطق الجبليّة صعبة المراس؛ فقد كانت كثيرة المنحدرات والمرتفعات، ملتوية، تعانق بلولبيّة صارمة الجبل، وتتلاعب بسالكها رفعا وخفضا إلى حدّ الغثيان. تكاد تلك الطريق الجبليّة تكون مغطّاة بسقف أخضر كثيف مما يغدق به شجر الصنوبر والفرنان من أغصان؛ وهذا ما يُكسبها صيفا رونقا وظلالا، وشتاءًا رهبة وانعدام أمان.

كلّ من يعرف تلك الطريق يتجنّب سلوكها بعد مغيب الشمس، لا سيّما خلال فصل الشّتاء حيث تُغرق بعض منحدراتها السّيول، وتنهال من بعض مرتفعاتها الصّخور؛ وقد تخترقها من حين لآخر الذّئاب والثّعالب والخنازير.. سكّان تلك المناطق المحاذية للطريق، هم أكثر من يخشاها؛ إذْ هم أخبر النّاس بخفاياها.. فكثيرا مل تناقلت الألسن، عبر الأجيال، أخبار ما يجري فيها ليلا من حين لآخر، والّذي لا تفسير له عندهم إلاّ بما اكتنف بعض مقاطعها من غموض ووحشة.. فالطريق تسكنها الأرواح.. أرواح من أكلتهم عبر السنين.

- ما أوحش هذه الطريق! قالها أحد القرّاء بعد أن تنهّد مردّدا الشهادتان.

أجابه الثّاني، وكأنّه خشي أن يزعج مثل هذا الكلام الأرواح والعفاريت، فتخرج من سباتها:

- اسكت يا هذا! اترك الرّجل يقود السيّارة.. لا تُربكه!

ضحك السّائق وشفتاه تمسكان بالسيجارة فترتعش بينهما وسط سحابة كثيفة من الدّخان الأبيض.. كان أصغرهم سنّا..

- دعه يحكي يا عمّ "رابح"..

همزهُ الأوّل في إشارة استفزازيّة:

- بَيّكْ "رابح" معروف عنه الخوف.. إنّه يخشى حتّى من ظلّه!

***

خرج من القرية المعلّقة في الجبل منذ الصباح. كان متأكّدا من ملاقاة أحد معارفه من ذوي الشاحنات أو السيّارات، وهم في طريقهم إلى "فرنانة".. فالسّوق يُنصَبُ فيها بداية من بعد عصر السبت، لتشتدّ حركة البيع والشراء فيه طيلة يوم الأحد.. ولذلك سُمّيت البلدة أيضا بسوق الأحد.

لا يذكر "أبَيّْ صالح" أنّه تخلّف مرّة واحدة عن السّوق، ولو فعل لمات جوعا.. فهو كغيره من سكان تلك المناطق الغضّة فلاّح إسما.. هو لا يملك أرضا في ما عدى ربع الهكتار الذي أقام عليه "حوشه"، فوفّر له كلّ العناية، زارعا في جزء منه خضروات من بصل وجزر وبطاطس وغير ذلك، وفي الجزء الآخر ورق التّبغ لاستهلاكه الشخصي، وإن إلتجأ في أحيان كثيرة إلى بيع المحصول الضئيل. كانت له بقرة، وبعض خرفان وماعز ودواجن أيضا.. يرتاد سوق "فرنانة" مرّة في الأسبوع، لبيع ما جادت به دجاجاته من بيض، وفرخ أو زوج من الفراخ وبعض الخضروات.. ويعود وقد ملأ جرابه بالسّكّر والشّاي وقليل من الزيت والخميرة.. وهديّة لازمة لزوجته "حبيبة": قطعة قماش، مشط أو كيس من الحلوى.

ها هو الآن يصل إلى الطريق المعبّدة. توقّف قليلا، مسترجعا أنفاسه. أشعل سيجارة، ثمّ واصل السير، مبتعدا عن المنعرج ليقف بعد ذلك في مكان يمكنه منه رؤية السيّارات القادمة من جهة "عين دراهم". رفع رأسه إلى السّماء، فوجدها ملبّدة بالغيوم المنذرة بعاصفة وشيكة.. لم يزعجه ذلك.. وما الّذي سيزعج شيخا في السبعين من العمر عاش أهوال حربين عالميّتين. خلال "قيرّة** 14" كما كان يسمّي الحرب الكبرى، أخطأه الموت فأسره الألمان. تنقّل عبر المحتشدات، وفي الثّلوج وعلى جثث الموتى. لقد عاشر الموت لسنوات عدّة، لم يعد بعدها يخشى شيئا من أشياء الحياة..

أحسّ بقطرات باردة تبلّل وجهه ويداه. رفع رأسه من جديد متأمّلا السماء وقد استحالت رماديّتها إلى سواد مزمجر، تخترقه بين الفينة والأخرى أضواء برقيّة بعيدة. مشى خطوات نحو شجرة فرنان كبيرة، وارفة أغصانها.. لا يبدو على وجهه المشرب بالحُمرة والّذي اخترقته خطوط العمر لتتلاشى داخل لحية بيضاء، أثرا لقلق ما.. فمآسيه الماضية، والتي تشيب من هولها الولدان، وكذلك إيمانه الرّاسخ والبسيط أكسباه قوقعة صلبة، تنكسر عليها كلّ المشاعر واضطرابات النّفس.. بعد عودته من محتشدات الأسر الألمانيّة، تزوّج من ابنة عمّته "حبيبة"، وانخرط في حياة قرويّة رتيبة رتابة الفصول، لا ينغّصها من حين لآخر، إلاّ جفاف، أو جراد، أو مجاعة، أو وباء.. حياة رتيبة أنجبت له خلالها زوجته ولدان وبنت.

اشتدّ المطر.. تكوّنت بعض السيول الصغيرة حاملة معها عبر الإسفلت الرمادي ترابا أحمر اللّون.. في حين امتزجت رشقات المطر بزمجرة الرّعد لتشكّل سنفونيّة غاضبة، استشفّ "ابيّْ صالح" من خلالها شخير محرّك شاحنة لا يزال المنعرج يخفيها..

نجله أحمد، أعدمه الفرنسيّون في أحد سجونهم بالجزائر، بعيد مغادرة الألمان بانهزامهم؛ والثّاني، يوسف، جرفه النّزوح إلى العاصمة بعد الإستقلال، ليستقرّ ويتزوّج وينجب فيها.. "الأوّل أكلته فرنسا، والثاني أكلته تونس" هكذا كان يذكر ولديه.. أمّا ابنته، فلقد استقرّت مع زوجها في سهل "الريابنة"، حيث منازل أخوالها.

أخيرا أطلّت الشاحنة الصغيرة بأنفها المتآكل، الذي بات يتنازعه الصديد والأوحال.. كانت هذه الميكانيكا العجوز تتسلّق الطريق الجبليّة بعناء وتُؤدة. خرج "ابيّْ صالح" من مكمنه تحت الشّجرة، وأخذ يلوّح بكلتا يداه، صارخا بأعلى صوته:

- "آهاي.. آهاي.."

عرفه السّائق، بعد أن تبيّن بصعوبة ملامحه، فتوّقف على جانب الطريق. بعد التّسليم والسّؤال عن الأحوال، اتّخذ مكانه الى الخلف، بجانب النّعش الفارغ.. قال له أحد القرّاء بلؤم:

- "أُحرسْ لنا الميّت، حذاري من أن يفرّ!"

ابتسم "ابّيْ صالح" قائلا:

-"توكّلْ على الله.. لا مفرَّ له تحت هذه الأمطار!

وانطلقت الشّاحنة من جديد.

"ابيّْ صالح" ذو القلب الصخريّ، كصخور الجبال التي نبت بين أحضانها، فضّل التّمدّد داخل الصندوق الخشبي على أن تتبلّل ملابسه الصّوفيّة الخشنة.. "سوف أُغادره حين تكفّ الأمطار عن النّزول.."

***

غادرت حوريّة قرية "العراقيب"*، وهي واحدة من عشرات القرى الجبليّة المحاذية لطريق "عين دراهم"، بعد أن ودّعت أهلها وصاحباتها. كان عليها العودة إلى العاصمة بعد أسبوع إجازة تعلّلت للحصول عليه بمرض والدتها.. قبلت مشغّلتها الأمر على مضض..

حوريّة تعمل بالعاصمة، كالعديد من فتيات هذه الجهة الّتي توالت عليها النكبات: فمن نكبة البايات، إلى نكبة الإستعمار، انتهاءا بنكبة الإستقلال. تعمل حوريّة عند عائلة بسيطة، تكاد تكون ضعيفة الحال.. ربّ البيت يعمل بمصنع، وتعمل زوجته كخادمة عند بعض الأجانب المتعاقدين.. اضطرّت قساوة الحياة الجديدة بالعاصمة هذه العائلة لإستجلاب فتاة من الريف، تعتني بالأطفال وتقوم بشؤون المنزل، مقابل مبلغ شهري زهيد، يرسل إلى أهلها في القرية، وأكلها ولباسها وسكنها مع تلك العائلة في ما يشبه التقاسم العادل للفقر. ربّة البيت رقيقة، طيّبة القلب، تعامل خادمتها كواحدة من أفراد العائلة.. تحنو عليها، لأنّها تذكّرها بنفسها.. بحياتها. لذلك لم تكن حوريّة متذمّرة من وضعها، كغيرها من زميلاتها في البؤس، فلِلْهمّ درجات!

أسرعت في المشي، بعد أن نظرت إلى السماء وقد بدأت ترعد وتبرق من بعيد. مرّت نصف ساعة، وهي على حالها، واقفة على جانب من الطريق، وقد وضعت بجانبها حقيبتها البنّية الصّغيرة، وكيس فيه دقيق وبيض بلدي ورقع من الخبز.. هديّة من والدتها إلى مشغّلة ابنتها.. اشتدّ قلق حوريّة حينما اسودّت السماء فجأة وبدأت في سكب غضبها الطوفاني، فانزوت، جارّة أمتعتها قرب عين تغطّيها الأغصان. انتظرت قلقة، وعينيها لا تفارقان الطريق، على أهبة للإقتراب منه إذا ما ظهرت في الأفق سيّارة أجرة أو باص..

تبدو أحلام حوريّة بسيطة، كبساطة حياتها وحياة كلّ البنات في هذا الرّيف الجبلي المنقطع عن حضارة المدن والعواصم.. تولد الواحدة منهنّ فتتلقّاها لامبالاة تفوق بقليل تلك التي تستقبل الذكور، فتنمو وتكبر، إذا ما تركت لها أمراض الصّغار القاتلة هناك، الفرصة في الحياة.. وربّما ترتاد الكتّاب لبعض الوقت، ولكن أشغال البيت من كنس وغسيل وجلب للماء من العين ورعي للشيّاه سرعان ما تفتكّها، لتنفرد بها.. وتلك طبيعة الأشياء، التي يبدو وأنّ عجلة الزّمان توقّفت فيه عن الدّوران في تلك المجتمعات المنسيّة..

طفولة حوريّة ككلّ طفولة، وإن قست فهي لا تخلو من اللّهو واللّعب، ومن المغامرات السّعيدة أو التّعيسة، وكذلك من هدايا العيد ومن العقوبات المنزليّة.. كلّ أولائك وسط بساطة قرويّة ساذجة.. فقد ينسى الطفل منهم خرفانه، لينغمس في اللّعب البريء، واللّهو مع أقرانه، جريا وراء الفراشات أو ترصّدا لأعشاش الطّيور، قصد الظفر ببيضها.. لينتهي به المطاف عند عقوبة أبويّة صارمة. هكذا نمت حوريّة، وهاهي الآن تعيش وسط مدية إسمنتيّة لا فراشات فيها ولا طيور.. والخرفان تظهر فيها أيّاما معدودات، كلُعَب عيد!

***

توقّفت الشّاحنة الصغيرة عندما أبصر سائقها حوريّة. أومأ لها بالصّعود.. اقشعرّ جسمها وكادت ترتدّ إلى الخلف عند رؤيتها للنّعش، ولكنّ السّائق انطلق من جديد، فلا وقت للتّردّد والمطر تنزل مدرارا. انزوت حوريّة، وقد تملّكها الرّعب، محاولة الابتعاد ما قدرت من الصندوق الخشبي الموحش. تذكّرت كابوسها. كتمت صرخة كادت تنفلت من أعمق أعماقها. تذكّرت أيضا نصائح أمّها، فتمتمت مردّدة كلّ ما حفظته من قرآن: المعوّذتان والفاتحة.. فالمعوّذتان فالفاتحة..

***

أحسّ "ابّيْ صالح" بابتعاد الرّعد وقد تقطّعت زمجرته وباتت رشقات المطر فوق غطاء النّعش خفيفة، فقرّر الخروج من مخبأه.

***

كان المنعرج شديد الالتواء حينما ألقت حوريّة بنفسها من على ظهر الشّاحنة.. تلاشت صيحتها وقد كتمتها زمجرة أخيرة للرّعد وهو يبتعد، وكذلك أغصان الفرنان الكثيفة.. تدحرج جسمها النّاعم الغضّ، كقضيب الخيزران، فلم يوقف حركته اللولبيّة إلاّ صخرة كبيرة كانت على جانب من الطريق.. توارت السيّارة خلف المنعرج، واختفى شخيرها شيئا فشيئا.. ها هي حوريّة ملقاة على الأرض وقد استقرّت عيناها في السماء الرمادية الدّاكنة.. توقّف كلّ شيء حولها، وعمّ سكون غريب.. وحدها قطرة من الدّمع، شقّت طريقها فوق خدّها لتمتزج بقطرات من المطر، ليتشكّل جدول رقيق، يرسم طريقه بين زغب الوجه العذري، ويمرّ تحت الأذن، فيخترق شعرها الأسود الطويل المتموّج على كتفيها وعلى جزء من وجهها النّاصع البياض، فيتناثر قطرة.. قطرة، على الإسفلت، وقد استحال لونه الآن إلى حمرة قانية.

_________________________________

* من قرى شمال غرب تونس، الجبليّة، ذات الغابات الكثيفة.

** كلمة "قيرّة" (بثلاث نقاط فوق القاف) كلمة دخيلة من الفرنسيّة guerre أو من الإيطاليّة guerra وهو الأرجح، وتعني الحرب.

vendredi 19 octobre 2007

القطار : قصّة قصيرة جدّا


القطار

انطلق القطار يطوي الأرض طيّا، ليفرزها خطّا أسودا يمزّق رماديّة سماء ضواحي باريس..


اخترق المساحات الإسمنتيّة، وسط قطع متفرّقة من الضباب..

داخل العربة، ساد صمت جنائزي ، وعلا الوجوه شحوب المدن الكبرى..

امرأة، وقفت متردّدة على عتبة سنّ اليأس.. في ركن قصيّ، التصق خدّها المبلّل، ببرد زجاج النّافذة.. على كتفيها انسدل حقل من الذّهب المتموّج تحت أشعّة فانوس كهربائي، التصقت بعض من خصلاته بالخذّ المبلّل وببرد زجاج النّافذة..

تبدّت عليها معالم ماض قريب، عريق في الجمال..

كانت تبكي..

ضمّت إلى صدرها كتاب مغلق.. انعكست صورة الغلاف على زجاج النّافذة: "طرق الإنتحار"*.


كان القطار لا يزال يطوي الأرض طيّا، عندما صفع برد متسلّل كالحيّة من أحد الأبواب، شحوب المدن الكبرى..

ومزّق رمادية سماء ضواحي باريس.. خطّ أحمر..



*Suicide, mode d'emploi

mardi 16 octobre 2007

« François, moi…et mon corps éparpillé sur le seuil »


«François, moi…et mon corps éparpillé sur le seuil»

Une nouvelle de Hayet Errayes
Traduite de l'Arabe par Saïd M. Jendoubi

Le marbre de la vieille maison, somnole avec quiétude sous la fraîcheur et le calme d’un toit que les secrets ont fini par rendre opaque. Le soleil aoûtien qui brûlait le patio de la maison, le laissait indifférent. L’enfer était tout près, là, furtif, derrière les portes… impatient… il guettait celui qui commettrait ce péché…


Et moi, comme lui, j’attendais… impatiente… mais je m’interdisais de commettre le plus beau des péchés… sauf si cela était avec toi…

Agitée, je traîne mon corps d’un lit l’autre, et puis je me laisse tomber par terre, à même le marbre froid… je l’envie pour son somme… un doute m’empêche de dormir : personne ne t’a vu, hier, alors que tu pénétrais chez moi ?

C’est que l’ « autre » est un enfer toujours aux aguets, quant aux portes entrebâillées… il rode autour des hautes enceintes… et tend l’oreille aux causeries des patios clos… l’enfer est plus miséricordieux, car c’est un projet éternellement différé…

Cela fait des années que je fais passer en cachette, ta souffrance et ta joie, comme je fais passer tes lettres et tes photos d’un tiroir à l’autre, je couvre l’étincelle qui réside au fond des yeux et je presse le battement du cœur…

C’est que la tribu ne s’est pas imprégnée de l’odeur de la paix depuis que celle-ci s’est répandue avec le secret de Layla Al-Akhyaliya, de Layla Al-Amiriya et de Bouthayna… de celles qui ne furent pas touchées par le luxe de la folie, et ne goûtèrent point les délices des errements à travers les déserts… mais elles se sont contentées d’avaler, jusqu’à l’agonie, les braises de leur amour. Les poétesses qui eurent l’audace et franchirent les seuils de l’aveu se sont immaculées du sang des mots, leurs cœurs se sont alors tus ainsi que leurs souffles, et de leurs poèmes rien ne nous est parvenu…

Qu’ils sont dures les maux du silence… que c’est dur d’aimer en silence… de divaguer en silence… de mourir en silence…

Seul l’enfer connait la brulure du silence… et connaît les souffrances de la dissimulation de l’odeur d’un homme qu’on aime… car seul l’enfer exhale des histoires des amoureux, des secrets des passionnés et des récits des amants…

Mon corps avait contenu tous les brasiers, et ma main qui tenait son secret s’est enflammée… j’ai baissé mes cils sur l’embrasement violeur des secrets…

Je me retourne sur le marbre froid… je tâtonne des bouts des doigts les lignes de ses fissures sinueuses… je chuchote à ces fissures qui ont raison de sa fermeté. Je colle ma joue contre son parterre, un gémissement du passé s’accroche à mon oreille… de ses fissures suintent les temps passés… partis sans un regard de nostalgie…

Le marbre tatoué par l’hémorragie du passé, enlace les battements d’un cœur meurtri. Nous posons la tête sur nos blessures, et nous nous endormons comme deux amis réunis par le même coup… un fil secret nous réunit et, file tel un silence habité par l’hémorragie du temps. Je fermai les yeux : « le marbre blanc s’est alors noyé dans du sang chaud… un sang s’est répandu dans l’indifférence de tous, tel le sang d’un martyr tombé dans des contrées étrangères… les fissures se sont ensanglantées, sans pour autant s’assouvir… c’est que la vengeance entre la blessure et le temps est ancienne… et la douleur est aussi lourde que le poids du temps pesant sur un dos brisé par le secret ».

Ce seuil là, avait consacré notre première rencontre à Tunis :

Lorsque je lui ouvris la porte, il jeta ses valises dans le patio, et m’attira vers lui… il était plein et grondant tel des vagues ayant parcouru les sept mers pour se disperser enfin en bruine humide sur ma poitrine… François m’embrassa, faisant fondre le solide marbre sous nos pieds… la vie a cessé d’être dure… les distances se rétractèrent, le ciel s’inclina, le temps se détendit et le dieu pardonna…

Lorsque je balançai ma tête laissant à ses lèvres le soin de trouver le chemin vers mon cœur… ses battements vibraient comme l’aile d’un oiseau égayé qui venait de retrouver son nid après un long égarement… avec ses palpitations, j’entendis des pas derrière la porte… éloignée des regards indiscrets, je vis l’œil de l’espion se faufiler à travers le souffle de l’air, sortir des trous des serrures et des fissures des murs, pour altérer le rythme de mon cœur… « Impossible qu’il soit passé avec ses valises, dans ces ruelles, sans que leurs yeux à elles ne le détectèrent à travers les trous des serrures ».

Soudain je fus traversée par les brises fraiches et mélancoliques de l’automne ; tandis que le printemps fleurissait en lui…

J’essayai de jeter le monde derrière mon dos, comme lorsque nous nous rencontrions à Paris et que j’étais entièrement à lui. Je trouvai, alors, le monde pesant tel le temps… tel le péché…

J’essayai de glisser sous sa peau… d’échanger mon sang terrifié contre le sien, « blanc » et à propos duquel il n’a de compte à rendre à personne… de débarrasser mon sang des remugles de l’antique terreur ; celle qui exhale les flammes de la tribu… difficilement je gainai ma tête dans sa poitrine…

François était plongé dans une prière vouée à son cœur, à ses sentiments et à ses sensations ; tandis que j’étais dispersée sur le seuil, une partie de moi était à l’intérieur, alors que l’autre était au dehors…

Il semble que nous n’appartenons pas au même seuil, au même climat ni à la même Histoire…

Mais François, pareil à un dieu jugeant – pour arrogance - une de ses créatures, me jugera plus tard, sur cette dispersion, et sur le fait de m’être arrêté de « prier ». Il sentit, avec l’intuition, toute pureté, du soufi amoureux, que je n’étais pas entièrement pour lui et, que ma présence dans son sang chaud n’était pas limpide… comment pourrai-je le convaincre que mon sang contaminé par les virus hérités de la tribu est le même que celui qui brule d’envie de le retrouver ?

Pour lui, ce serait difficile à comprendre !


" أنا و فرنسوا ....
وجسدي المبعثر على العتبة "

قصة قصيرة بقلم : حياة الرايس

مرمر البيت العتيق يغفو مطمئنا تحت برودة و سكون السقف المعتّم بالاسرار، غير مكترث لظهيرة أوّسو التي تستعر في صحن الدار ....فجهنم على العتبات تنتظر وراء الابواب تتلصص .....تتلهف ....تنتظر من سيرتكب تلك المعصية .......
و انا مثلها أنتظر.... أتلهّف.... و لكن امتنع عن إرتكاب اجمل المعاصي إلا معك .....
أتقلب بجسدي من سرير الى سرير ثمّ أرتمي على أرض المرمر البارد ...طامعة في إغفاءة مثل إغفائته ...يساورني شك يفسد عليّ نومتى : هل لمحك أحد البارحة و أنت تدخل عندي ؟....
ف "الآخر" جحيم مترصد بالابواب المواربة ...يطوف بالاسوار العالية... و يتنصت أحاديث السقائف المغلقة ... و أرحم منه جهنم لانها مشروع مؤجل الى الأبد ....
قضيت سنين أُهرّب ألمك و فرحك كما أهرب رسائلك و صورك من درج الى درج و أُطبق على الألق الساكن في العيون ... و أضغط على النبض الخافق في القلب ...
فالقبيلة لم تعبق قط برائحة الأمان منذ ساح بها سرّ ليلى الأخيلية و ليلى العامرية و بثينة ....ممّن لم يمسّهن ترف الجنون و لا تمتعن برحمة التيه هائمات طليقات في الصحراء ...بل إكتفين بإبتلاع جمرات عشقهن غصصا ... فالشاعرات اللوّاتي تطاولن و عتّبن رقعة البوح تخضبن بدماء الكلمات فسكتت قلوبهن و انفاسهن و لم تصلنا أشعارهن أبدا
ما أصعب أوجاع الصمت... ماأصعب أن نحب في صمت ...ان نجن في صمت ...ان نموت في صمت ...
وحدها جهنم تعرف حرقة الصمت... و تعرف عذابات إخفاء رائحة رجل نُحبّه ...لأنها وحدها العابقة بأخبار المحبين و أسرار الموّلهين و قصص العاشقبن ....
لقد حوى جسدي الحرائق كلّها و إلتهبت كفي الماسكة على سرّه ...و اسدلت الجفون على الوهج الهاتك للأسرار ...
أتقلب على أرض المرمر البارد ...أتحسس بأطراف أصابعي خطوط شقوقه المنعرجة ...أُسًر لهذه الشقوق التى ُتكسر صلابته ،.أُلصق خدّي ببلاطه فيتسلق الى أُذني أنين الماضي ينز من بين شقوقه على أيًام ولًت و رحلت دون إلتفاتة حنين ...
يحتضن المرمر الموشوم بنزيف الماضي دقات القلب المكلوم ،نتوسد جراحنا وننام كصديقين ينتميان الىنفس الطعنة ،خيط سري ّيجمع بيننا يسري صمتا مأهولا بنزيف الزمن ...أغمضت عينيّ : "فغرق المرمر الابيض في دماء ساخنة ...ساح دم لا يكترث له أحد كدم شهيد في بلاد غريبة ،تضمّخت الشقوق بالدماء دون أن ترتوي ... فالثأر قديم بين الجرح و الزمن ... و الوجع ثقيل ثقل الدهر على ظهر مقصوم بالكتمان "
تلك العتبة كانت قد لقاءنا الاول بتونس :
عندما فتحت له الباب رمى حقائبه في السقيفة و سحبني الى صدره ...كان ممتلئا و هادرا كأمواج قطعت البحار السبعة لتتلاشى رذاذا رطبا على صدري ....
ظمّني " فرنسوا " حتّى ذاب المرمر الصلب تحت أقدامنا ...تراجعت الدنيا عن قسوتها ....تقلّصت المسافات و إنحنت السماء و إنبسط الدهر و غفر الاله ...
عندما ألقيت رأسي على كتفه أدركت كم انا متعبة و مكابرة ....
ألقيت رأسي و تركت شفتيه تتحسّسان الطريق الى قلبي ...كان نبضه خافقا كجناح طائر مقرور وجد عشّه بعد طول ضياع ...مع نبضه سمعت وقع خطوات وراء الباب ...غائبة عن العيون رأيت عين الرقيب تتسلل مع انفاس الهواء، تخرج من ثقوب الابواب و من شقوق الجدران ...لتفسد إيقاع قلبي ...:"من المستحيل ان يكون قد مرّ بالزقاق و بحقائبه دون ان تضبطه عيونهنّ من وراء ثقب الابواب "
إخترقتني فجأة نسائم خريفيّة باردة و موحشة ...بينما كان الربيع يزهر في داخله ....
حاولت ان أرمي العالم وراء ظهري كما كنّا نلتقي في باريس و اكون له وحده فوجدت العالم ثقيلا كالدهر ...كالذنب ...
حاولت ان انساب تحت جلده ...أن استبدل دمي المرعوب بدمائه "البيضاء " التى لم يحاسبه عليها أحد ...أن أصفّي دمي من روائح الرعب القديمة العابقة من السنة لهب القبيلة ....بصعوبة غمدت رأسي في صدره ...
كان "فرنسوا "غارقا في صلاة لوجه قلبه و مشاعره و أحاسيسه ...و كنت أنا مبعثرة على العتبة بعضي في الداخل و بعضي في الخارج ...
يبدو أنّنا لا ننتمي الى نفس العتبة و لا الى نفس الطقس و لا الى نفس التاريخ ...
لكنّ "فرنسوا " سيحاسبني فيما بعد عن ذلك التبعثر، عن ذلك الإنقطاع عن" الصلاة " كما يحاسب إله عبدا أشرك به .لقد أدرك بحدس العاشق الصّوفي الخالص أنني لم أكن كليّا معه و أنني لم أًسرِ صافية في دمائه الحارّة ...
كيف أقنعه ان دمي الملوّث بموروث فيروسات القبيلة هو نفسه المحترق شوقا للقائه؟
من الصعب ان يفهم