mercredi 12 septembre 2007

قصّة : سوف نلتقي... فنتازيا


سوف نلتقي... (فنتازيا)
بقلم سعيد محمد الجندوبي

هذه قصّة تناقلتها الألسن عبر الأزمان، وأجبرتنا ونحن أطفال على اللّجوء إلى سلطان الكرى
...

أدار محسن قفل العدّاد مطفئا بذلك إشارة التّاكسي الضوئيّة, وقرّر الإكتفاء بذلك القدر من العمل والعودة إلى بيته منهيا ليلة لم تكن بالمجدية. إنّه يمقت ليالي المطر. تنهّد وهو يعُدّ حصيلة اليوم من الأوراق و القطع النّقديّة.
-
إثني عشرة دينارا وخمس مائة... الحمد لله على كلّ حال.

كانت الطّريق غارقة في الظلمة, وكان المطر ينزل بغزارة, ستارا من وراء ستار؛ وهذا ما حدى بمحسن إلى السّير بسرعة منخفضة درءا منه للمفاجآت. فالطريق على تعبيدها الحديث كانت كثيرة الحفر. أدار زرّ الراديو فأنطلقت منه أصوات متداخلة وأنواع مزعجة من الأزيز. حاول تثبيت الإبرة على الموجة الوطنيّة, فأنبعثت من الجهاز قطعة موسيقيّة، كئيبة النغمات، لفرقة الرشيديّة.

بينما كان محسن على وتيرته تلك, إذ بشبح امرأة أو رجل – لم يستطع محسن تبيّنه من شدّة الظّلام والمطر – يقف على حافّة الطّريق ملوّحا نحو سيّارة الأجرة بكلتا يديه باضطراب المستنجد. ما لبثت السيّارة أن اقتربت من الشّبح, حتّى تبيّن لمحسن بأنّها امرأة. لم يتوقّف؛ بل واصل سيره, إصرارا منه على تصميمه عدم أخذ زبون آخر مهما كان. ثمّ إنّه فكّر بعض الشيء وهو يبتعد عن الشّبح, فتساءل: "لا... لا. إنّها امرأة, لا يمكن أن أتركها وحيدة وسط هذا الخلاء الموحش في ليلة كهذه". توقّف عن السّير مديرا رأسه نحوها, فإذا بها الآن وسط الطريق وقد أسبلت يديها مكتفية بالنظر إلى السيّارة. بدأ محسن في التقهقر إلى الوراء حتى عاد قبالتها. فتحت الباب الخلفي وتهاوت جالسة متوسّطة المقعد مغمغمة بعبارات لم يتسنّى لمحسن التقاط غير:
- "
أخيرا... عدتَ!
-
ماذا!؟
-
كنت واثقة من أنّك سترجع...
سألها محسن بنوع من الحزم الأبوي, وهو يستعدّ للسير من جديد:
- "
ما الذي حدث لكِ؟ ماذا تفعلين في ساعة كهذه وفي مثل هذا المكان المقفر؟"
لم تجبه. كانت غائبة نوعا ما.لاحظ محسن بأن يداها ترتعشان, فقال لها:
- "
هدّئي من روعكِ... أنت الآن في مأمن.
-
خذني إلى بيتنا... أرجوك! لا تتركني هنا... أمّي تنتظرني... وهي بلا شكّ قلقة جدّا... سأشعر عندها بالاطمئنان وبالرّاحة."
كانت لاهثة ومرتبكة, وكان شعرها الأسود الطويل المبلّل قد انسابت جدائله على ظهرها وعلى جزء من وجهها, ممّا حدا بمحسن إلى إشعال الضوء الدّاخلي حتّى يتسنّى له رؤيتها عن كثب, عبر مرآته العاكسة. تبدّت له في مقتبل العمر, لا تتجاوز العقدين والنّصف, على أكثر تقدير.

حاول محسن أن يقطع الصمت المخيّم داخل السيّارة - فحتّى موجة الرّاديو تداخلت فيها الأصوات قبل أن تتلاشى تاركة المكان لأزيز غريب ومتواصل, بالرغم من محاولاته تثبيت الإبرة من جديد – فقال متنهّدا:
- "
لقد أنهيت شغلي, وكنت قد عزمت على العودة إلى بيتي... قاطعته قائلة:
-
سوف لن أنسى لك فضلك...سوف لن أنسى...
-
أين تقطنين؟
أجابت بنوع من التردّد الذي لا ينبئ بخير:
-
في حيّ الزهور... نعم هكذا... حيّ الزهور... نهج 3004, بيت عدد 18."
تنفّس محسن الصّعداء, وقال مبتسما:
- "
حسنا! حيّ الزّهور لا يبعد عن مقرّ سكني."

في الطريق, كانت صامتة. باءت محاولات محسن استدراجها للثرثرة بالفشل؛ وإن أصرّ على معرفة أسباب وجودها في ذلك المكان وفي تلك السّاعة. كانت أجوبتها مقتضبة ومبهمة بعض الشيء, وفي الخلاصة غير مقنعة. بدأت ترتجف من البرد وقد تبلّلت ملابسها الغير ملائمة لفصل الشّتاء. شعر محسن بذلك وهو يرمقها, بين الفينة والأخرى, عبر المرآة العاكسة, فناولها معطفه السّميك قائلا:
- "
ضعي هذا المعطف على كتفيك في انتظار وصولنا إلى البيت.
-
شكرا... شكرا... ثمّ أضافت بعد لحظات من الصمت, أنت طيّب القلب... أنت ابن حلال".

بعد ساعة من البحث, وصل محسن, أخيرا, أمام العنوان المذكور. لم تكن الفتاة متأكّدة من الطريق. تعلّلت باللّيل وبالمطر وبعدم تعوّدها عليه بالسيّارة.
قالت له وهي تتبيّن الطريق كمن عاد من سفر طويل:
- "
كلّ شيء قد تغيّر في الحيّ...
-
نعم!؟ ماذا تقولين؟
-
أعني مع هذه الأمطار وهذا الظلام!
-
أنت محقّة... في اللّيل تختلف المناظر والأشياء... كثيرا ما يحدث لي أن أضيع ليلا في أماكن أعرفها جيّدا بالنّهار".

نزلت الفتاة من السيّارة واتّجهت ببعض تردّد نحو باب المنزل. قال محسن محدّثا نفسه, وقد توارت الفتاة عن عينيه:" سوف تعود بعد دقائق, فأستعيد معطفي... إذا أرادت دفع بعض المال, فلا بأس, سآخذه."

أوقف محسن محرّك السيّارة, وأطفأ أنوارها, ثمّ أرخى برأسه إلى الوراء, مغمضا عينيه وقد أنهكه التّعب. نظر إلى ساعته للمرّة الثانية. مرّت الآن ربع ساعة ولم تظهر الفتاة بعد. بدأ الضجر يتملكّه. قال متململا:
"-
هكذا الحال! تؤدّي خدمة إنسانيّة إلى محتاج, فتصبح أنت المطلوب! سأنتظر قليلا..."

مرّت الآن نصف ساعة. نزل محسن من السيّارة واتّجه نحو الباب. تردّد بعض الشيء, ثمّ طفق يطرق برفق. انتظر قليلا؛ وكان المطر ينزل بشدّة. ها هو الآن يطرق الباب بضجر وبشدّة. بعد دقائق معدودات, اشتعل نور باهت لمصباح كهربائي معلّق فوق الباب. تنفّس محسن الصّعداء. فُتح الباب وظهرت من خلال فجوته امرأة عجوز, دلّ مظهرها على أنّها انتزعت من النوم انتزاعا... كان الذّعر باد على وجهها الكثير التّجاعيد. نظرت إليه بريبة وسألته:
"-
تفضّل! ماذا تريد يا بنيّ؟" احتار محسن فيما يمكن أن يقوله في مثل هذا الموقف. قال في نفسه:"إنّها لا تسخر مني؟" ثمّ متوجّها بالكلام إلى العجوز:
"-
ابنتك, أو حفيدتك, لا أدري... لقد أوصلتها بسيّارتي, وأعطيتها معطفي لتقي نفسها من البرد... كانت مبلّلة... قالت لي "انتظرني, سأعود إليك بالنّقود وبالمعطف..." أجابت العجوز, بعد لحظات من الصمت:
-
ماذا تقول؟ لا... لا يا بنيّ, أنت مخطىء. لم يدخل أحد إلى هنا!"
فتح محسن عيناه متعجّبا وقد داخله بعض الشكّ. نظر حواليه, لعلّ الأبواب تشابهت عليه, فأخطأ بالفعل. سألته العجوز قبل أن ينبس بكلمة:
-
هل أنت متأكّك من البيت؟ ربّما دخلتْ إلى أحد البيوت المجاورة.
أجابها وهو يتأمّل بدقّة رقم البيت:
-
كلاّ! أنا متأكّد... هذا هو البيت... هذا هو رقمه الذي ذكرته لي... عدد 18, نهج 3004... أنا لست مجنونا, ولا أقبل بهذا المزاح. أنا منهك وأرغب في العودة إلى بيتي... ثمّ أضاف بنوع من التوسّل, أعيدوا لي معطفي لا حاجة لي بالنّقود!
-
يا بنيّ! من أين أعرفك لكي أمازحك؟ أقول لك لم يدخل هنا أحد... ولا بنات لي ولا حفيدات, وأنت تحدّثني عن معطفك؟ أضافت بنبرة أقلّ حدّة, أعيش بمفردي في هذا البيت.
سكتت. وسكت محسن مخمّنا حيرانا. أضافت العجوز بتردّد:
-
ربّما هي الخمرة يا بنيّ! إنّها تخرج المرأ عن الصواب...
تمالك محسن نفسه من فورة الغضب التي انتابته, وقال مبتسما:
-
يا أمي العزيزة... أعوذ بالله من الخمر... أنا لست سكرانا... والله لم لم تدخل فمي قطرة واحدة منها.

جذبت العجوز رداءها إلى عنقها قائلة:
-
لا أريد أن أمرض, فالليلة قارسة. إسمعني جيدا يابني... إبنتي الوحيدة ماتت منذ سنوات عديدة, وليس لي غيرها.
سكتت قليلا ثم أضافت متنهدة:
-
هل أرحتك الآن؟
-
المعذرة... المعذرة يا أمي... سامحيني... قد أكون مخطأ... أستودعك الله... تصبحين على خير.
-
تصبح على خير يا بني.
وأغلقت الباب.

لايدري محسن كم مكث واقفا, أمام بيت العجوز, مذهولا لا يقوى على الحركة. في البيت, لم يتمكن من إغماض عينيه, إذ لم تغادر صورة الفتاة مخيلته. لم يجرأ حتى على رواية الحادثة لزوجته.

لم يشغل مصطفى إشارة العداد حتى لا يستوقفه حريف. إتجه رأسا صوب حي الزهور. أثناء الطريق, أشعل السيجارة تلو الأخرى, وقد باتت تتردد في نفسه, رغما عن أنفه عبارة واحدة: " أريد الحقيقة... أريد معرفة الحقيقة ".

طرق الباب. خرجت العجوز. تعجبت حين وجدته أمامها مصفر الوجه, منتفخ العينان.
-
هو أنت؟
-
لم أنم البارحة... أنا متأكد أن الفتاة التي رافقتها قد دخلت هذا البيت.
فتحت العجوز الباب موسعة له الطريق:
-
تفضل يا بني... سنتحدث بالداخل.

جلس محسن في غرفة الإستقبال, وتركته العجوز لكي تحظر القهوة. ما أن غابت حتى انتابه شعور غريب: مزيج من الرهبة والقلق. أحس بحظور ما, كأن لم يكن وحيدا في الغرفة... كأن أعينا تراقبه... كأن أصواتا خافتة ومبهمة تناديه. بدأت وتيرة تنفسه تتسارع وتشكلت على جبينه حبات عرق. أخذ يجول ببصره في أرجاء الغرفة. فجأة ارتعدت فرائسه, واشتد خفقان قلبه حين وقع بصره على إطار معلق خلفه على الجدار... " إنها هي... الفتاة... نعم هذه صورتها... "

عادت العجوز وقد أصبح وجه محسن ممتقعا أكثر من ذي قبل.
-
مالك يا بني؟ لا بأس؟
-
ماذا؟ نعم... لا بأس... لا بأس.
إحتسى القهوة بعصبية. سألها ونظره منشدّ إلى الإطار:
-
أهذه إبنتك؟
-
أجل... رحمة الله عليها.
-
ماذا تقولين؟ أنا سأجن... هذه هي الفتاة التي اصطحبتها بالأمس... والله إنها هي بعينها، أنا واع بما أقول.

تهالكت العجوز على أريكة، وتنهّدت قائلة:
-
يا بنيّ! العن الشيطان، أخزاه الله! تلك ابنتي الوحيدة، فلذة كبدي، فقدتها وهي في ريعان شبابها...
-
ماذا تقولين؟ هذا أمر غير معقول!
-
أجل! كان حادثا أليما. توقفت عن الكلام لتكفكف الدمع؛ ثمّ أضافت مسترسلة، غير مكترثة لما أصاب سحنة محسن من امتقاع وشحوب. صدمتها سيّارة في ليلة ممطرة، ولم يتوقف صاحب السيارة، بل تركها تنزف إلى أن فارقت الحياة... كان ذلك قبل عشرون عاما. ما أسرع الأيام! كأنّنا بالأمس. اشرب قهوتك ما دامت ساخنة.

امتدّت يد محسن، مرتعشة، نحو الفنجان. قالت له العجوز وهو يحاول ترشفّ القهوة، وقد استقرّ نظره على الإطار المعلّق على الجدار، قبالته:
-
خذني إلى المقبرة، إذا كان لديك فسحة من الوقت، لقد أثرت يا بنيّ أوجاعا فيّ قديمة، ولا بدّ لي من زيارتها... وبذلك تزول شكوكك ويهدأ روعك فيعود إليك شاهد عقلك.

ركن محسن السيارة في الموقف المخصّص للزّائرين ودخل صحبة العجوز إلى مقبرة الجلاّز. بعد مدّة من السّير عبر الممرّات الملتوية، توقّفت العجوز مشيرة إلى جهة تزدحم فيها القبور.
-
قبر بنيّتي يقع هناك، خلف تلك النّخلة. تعالى حتّى تراه بأمّ عينك، واسندني فالمكان وعر.

سارا عبر القبور؛ بعضها كان قديما، انقطع عنه زائروه, وبعضها الآخر نمّ البياض الناصع فيه على حداثة عهده. توقّفت العجوز، وتوقّف محسن، وقبل أن تشير إلى قبر الفتاة، سقط محسن على ركبتيه صارخا:
-
يا إلاهي... هذا معطفي ملقىً فوق القبر... لقد قلت لكِ أنّني اصطحبتها إلى البيت... هذا معطفي... هذا معطفي... إنّها هي... هي...

كان محسن يردد تلك الكلمات وهو يبكي ويرتعد. ولم تجد العجوز ما تقوله غير:
-
هدّئ من روعك يا بنيّ... العن الشيطان... اتلو قرآنا...

خرج محسن من المقبرة يجرّ معطفه، غير آبه لم حوله. لم يأبه حتّى لسيّارته، بل اتّجه رأسا، وهو يردّد عبارات مبهمة، إلى أقرب قسم للشرطة
.

Aucun commentaire: