mercredi 5 septembre 2007

قصّة : بيتنا الجديد


بيتنا الجديد

بعد التدشين...

ما أن تسلّم سكّان الحيّ الجديد مفاتيح مساكنهم وحجج التمليك الرّسميّة, حتّى دبّت الحياة في البقعة الناصعة البياض وسط تلك الأرض الجرداء. اتّسمت الأسابيع الأولى من عمر "الحيّ الشّعبي" بحركة هجرة العائلات نحو بيوتها الجديدة. مملكة نمل انبثقت فجأة من أحشاء الأرض, مع حلول الصّيف, فرسمت خطوطا سوداء رفيعة ومتحرّكة بتخطيط متناهي الدّقة من وإلى قريتها. كانت وسائل النّقل تختلف باختلاف إمكانيات السّكّان الجدد. بعضهم شحن كلّ ما لديه على ظهر شاحنة عصريّة, والبعض الآخر لم يجد غير عربة صغيرة, يجرّها بغل نحيف, هرم, زادته وطأة الحمولة المبالغ فيها بلا جدوى, وكذلك ضعف الشيخوخة المتوِّجة لحياة بائسة, إنهاكا, حتّى تدلّى لسانه, واستحال لهثه إلى نوع من النّحيب المكتوم, فما عاد يأبه للذعات السّوط ولا للعنات صاحبه... ولم يكن هنالك إلاّ بعض الأعين الصّغيرة لتقاسم البؤس الدّفين لهذه الدّابة, ولتصنّف, وإلى الأبد, ذلك الرجل الخشن, صاحب السوط, في خانة الأشرار. والواضح من نوعيّة الأثاث والأوعية المنقولة أنّ أصحابها كانوا أقرب منهم إلى الفقر المدقع من أيّة درجة أخرى من درجات السّلّم الاجتماعي. خزائن من دون أبواب, كراسي ينقص بعضها رجل أو ظهر, سرر حديديّة استحال لونها من الأسود إلى البنّي من فرط الصّديد والسّنين, أغطية مهترئة, ملاحف باهتة الألوان وقد تخلّلتها الثقوب فلم تعد تقي من حرّ ولا من قرّ, وطناجر (قُدُر) عتيقة, أسودت قيعانها من كثرة الطهي على الفحم, وغير ذلك من سقط المتاع, مما لا يصلح أن يعرض إلاّ في أسواق الخردة. ورغم ذلك فقد انصبّت أنظار الرّحل على أثاثها, ولم تغادرها ولو للحظة خشية أن يسقط أو يضيع أو يتمزّق شيء ما. بعضهم اصطحب ما لديه من خرفان وماعز وبعض الدّواجن, وبذلك امتزجت أصوات الأطفال بصياح الدّيكة ونباح الكلاب وثغاء النّعاج، وكذلك بضحك النّساء وحمحمات الرّجال. مشهدا كرنفاليّا مفعما بالسّعادة و بالهياج وبالبساطة السّاذجة.

قدم أغلب سكّان "الحيّ الشّعبي" من الأكواخ المتناثرة عبر البوادي المجدبة, والواقعة على أطراف المدينة ذات الحدائق الغنّاء. شيّد الأجانب, وهم في أوج سطوتهم على البلاد, هذه القرية الإستحماميّة, على السّاحل الجنوبي لخليج تونس, وأعطوها, لحسن موقعها, اسم إحدى ضواحي باريس الرّاقية: سان جرمان. وكان أن سكنها أبناء الطبقة الوسطى من معلّمين وموظّفين في الإدارة وممّن كانوا يعملون في مؤسسة السكك الحديدية, ولم يسمح لأحد من الأهالي أن يقطنها, إلاّ قلّة قليلة ممن رحم ربّك فحظيت عند سلطة الاستعمار بحسن القبول. بدت القرية للعيان, من خلال شكل بيوتها, وجمال حدائقها, وترتيب شوارعها كنسخة أمينة لكلّ القرى السّاحليّة بالجنوب الفرنسي. وحتّى يتسنّى لأبناء الطبقة الوسطى من الأوروبيين التعويض عمّا بذلوه من تضحيات, وأوّلها البعد عن الوطن, فقد حاول هؤلاء إثبات أفضليّتهم على الأهالي في كلّ صغيرة وكبيرة, فاتخذوا الخدم والحشم والحرس, مغترفين ممّا زخر به بحر البؤس المحيط بمدينتهم... ومرت السنين والعقود, وحصلت البلاد على استقلالها, ورحل جل العجم, وحلّ محلّهم أبناء البلد. والحقيقة أنّ الظروف الجديدة وفّرت لبعض الفئات المتمكّنة شتّى الفرص للحصول بأبخس الأثمان, وفي بعض الأحيان بالمجان, على ممتلكات الفرنسيين من أثاث وعقارات. فظهرت للوجود طبقة من الأثرياء الجدد, سرعان ما حاولت السير على منوال الأوروبيين وبقايا الأرستقراطيّة البايليك, وإن خانتها لكنتها وبعض طبائعها الخارجيّة المنشأ: فلقد نزح معظم أبناء هذه الطبقة الجديدة من مناطق الساحل المختلفة ومن جزيرة جربة... واستمر بحر البؤس المحيط بالمدينة يمدّها بما تحتاجه من خادمات في البيوت, ومن عملة بالحدائق, ومن حرّاس على البوّابات...

هؤلاء هم أغلب سكّان "الحي الشعبي". وما كان لهؤلاء المساكين أن يحصلوا على تلك المساكن, وما كان لحيّهم أن يرى النور, لو لم تكن الدولة آنذاك تمرّ بغفوة اشتراكية - سرعان ما استفاقت منها - حيث جعلت من أولوياّتها القضاء على الأكواخ بدعم شبه كامل لمشاريع المساكن الشّعبيّة, وكذلك لسياسات محو الأمّيّة, والتعليم الإجباري, وتحديد النّسل.

قرر أحمد أن يتفقّد البيت قبل الانتقال إليه نهائيّا صحبة عائلته الصغيرة, وأن يقوم بتهوئته وتنظيفه قبل نقل الأثاث إليه. وما كان بفاعل لولا حِرص زوجته آمنة على ذلك. فلقد حاول إقناعها, كعادته, بأنّ المنزل جديد ولا داعي من مسح الأرضيّة والجدران. ولكنّها أصرّت. فالمسألة بالنّسبة لها مسألة مبدأ: لا دخول للبيت الجديد قبل تنظيفه, وتنقية هواءه, وتطهيره بالبخور. "لا تنسى أننا سنعيش بقيّة عمرنا في كنف هذا البيت, وفيه سيكبر ولدينا... ثمّ تداركت قائلة وقد وضعت يدها فوق بطنها المنتفخ, أولادنا!" في النّهاية أذعن أحمد, رافعا عينيه نحو السماء, محرّكا رأسه يمنة و يسرة, مستجديا صبرا. اصطحب يومها, ابنه الأكبر, تاركا الصغيرة عالقة في أهداب أمّها.

تسارعت دقّات قلبه حينما أدخل المفتاح في ثقب القفل, وعمّت كيانه سعادة ونشوة لم يشعر بهما قبل اليوم. فلأوّل مرّة منذ قدومه من شمال غرب البلاد قبل خمسة عشر عاما, يدخل أحمد إلى بيت يملكه... بيت يحمل اسمه... بيت يسمّيه بملأ فيه: "داري!" لأوّل مرّة في حياته سيسكن في منزل عصري, تسري عبر جدرانه أنابيب المياه وأسلاك الكهرباء, كما تردد في أفواه الخطباء يوم التدشّين. اكتظت مخيّلته بصور شتّى لغرف الإيجار مع الجيران في حيّ الملاّسين برطوبته الموبوءة, وفي وكالات المدينة القديمة بجدرانها المتداعية وسقوفها المهترئة, وفي بيوت كعلب السردينة, ملحقة بحدائق فلل الضواحي... صور شتّى لكلّ المحطّات المؤقتة التي مرّ بها, والتي اقترنت لديه بسني التّعاسة. تراءت له, وهو يدير المفتاح في القفل. اشراقات حياة جديدة, ستزيل, وإلى الأبد, معالم الماضي وآلامه.

دخل أحمد, مقدّما رجله اليمنى تبرّكا, ومتمتما بالبسملة وحمد الله على هذه النّعمة؛ ثمّ طفق يتجوّل عبر أرجاء البيت الصّغير. غرفتان وممرّ غير مغطّى, قبالة الغرفتان مطبخ ومرحاض لا يتجاوز سقفيهما قامة رجل متوسّط الطّول. وينتهي الممرّ المكشوف إلى فضاء داخلي صغير لا سقف له وأرضيّته من تراب, ويفضي من الجهة الأخرى إلى حديقة صغيرة يفصلها عن الشّارع وعن الجيران بالجنب سور لا يتجاوز المتر من العلوّ. هذا كلّ ما يشتمل عليه البيت الجديد. وكلّ بيوت الحيّ الشّعبي جاءت على هذه الشّاكلة: شاكلة الملاجيء المحتضنة لمشرّدي الفيضانات, والمتناثرة عبر بوادي البلاد. فتح أحمد كلّ النّوافذ وكلّ الأبواب, وانغمس في التّفكير والتّخمين والتّخطيط, وبين الفينة والأخرى يغمغم بكلمات مبهمة. لم يكن يأبه لما حوله, وكان طفله يجري بين الغرفتان والمطبخ والحمّام, ويعتلي أيضا ذلك السور الّذي وجده مناسبا جدّا لقامته القصيرة.

مرّ شهر بعد أن استقرّت عائلة أحمد الصّغيرة في بيتها الجديد؛ وحلّ المولود ليملأ المنزل صراخا وفرحة. وكانت هذه المناسبة فرصة للتّعرّف على الجيران الجدد الّذين توافدوا للتّهنئة وللمباركة, وكذلك لتبادل الآراء حول ترتيب البيت وإكمال البناء. فالكل مجمعون على أنّ هذه البيوت ينقصها شيء ما لتصبح حقّا بيوتا.

Aucun commentaire: