
رأت في ما يرى النائم جنازتها.. استفاقت مذعورة من هول الكابوس، فارتطم رأسها بالسّقف.. فتحت عينيها، فلم تر شيئا .. تململت يمينا فردّها جدار.. تململت شمالا.. جدار أيضا.. انحبست أنفاسها.. وارتدّت إليها صرختها
نسعى من خلال هذه المدوّنة إلى المساهمة في إيجاد حركة فكريّة وأدبيّة يكون لها إشعاع في مستوى طموح الجماهير. وعبارة "تحت السور" هي بمثابة غمزة لجيل رائد من أدباء ومثقّفي تونس.. حمل عبر ما قدّمه من أدب ومن فكر هموم شعبه، وكان له أثر كبير وإن غُيّب على انبثاق الوعي لدى هذا الشعب
تسألين... (قصيدة قيلت إثر لقاء عابر)
رقصتِ...
فبات الكون أعينا
ترنو إليك, منقادة,
مذهولة, مفتونة,
مسحورة, مأسورة,
بجمالِ ...قدُك الميَاس,
يا عمري
°°°°°
من أنتِ؟
ما أنتِ؟
أرنو إليك خفية ولا أجرأ
أرنو إليك كمن يسرق
أرنو إليك وأخشى أن أُفضح
وأخاف... أخاف... أخاف... وأزيد
فلذيذ طعم المجازفة
لذيذ
°°°°°
من أنتِ؟
ما أنتِ؟
أراك كلؤلؤة
في عمق الماء
فأمدُ يدي لأمسكها
فتبتعد...
وأمدُ... أمدُ... أمدُ... فلا أجد
غير الأحجار
في يدي
°°°°°
من أنت؟
ما أنت؟
أحادثكَ فتجيبْ
وكلُ حرف على شفتيكَ نشيدْ
أُسائلكَ
عن هذا الحزن في عينيكَ
وبالآهات تجيبْ
وأخاف إحراجك
فأصمت... أصمت... أصمت... أكاد
أنفجر براكين...
ولهيبْ
°°°°°
من أنتِ؟
ما أنتِ؟
أصبحت أراك في كلِ مكان
وحين أغمض عينيا
أراك
لم أعد أفهم شيئا
يا ساكني
هل أنت إنس؟
أم من الجان؟
وأدور حواليّ
فأراك... أراك... أراك... سأجنُ
إلهي...
سأجن
°°°°°
من أنتِ؟
ما أنتِ؟
ومشينا في طريق مظلم
رغم الأنوار
لا نور يعلو نورك
تخبو حين تضيئي
الأنوارْ
وفراشة أنا, حول الشُعلة
القرب منك... حرقة
والبعد عنك...
نارْ
°°°°°
من أنتِ؟
ما أنتِ؟
ومرت الأيام
وتسألين: هل زال المرض؟
كيف يزول؟
وبين يديك وُضِع الدواء
كيف يزول؟
ومن عسل عينيك
تجرَعتُ سُمًا قاتلا
فلم تسألين وأنتِ قاتلتي !
"هل زال المرض؟"
سوف نلتقي... (فنتازيا)
بقلم سعيد محمد الجندوبي
هذه قصّة تناقلتها الألسن عبر الأزمان، وأجبرتنا ونحن أطفال على اللّجوء إلى سلطان الكرى...
أدار محسن قفل العدّاد مطفئا بذلك إشارة التّاكسي الضوئيّة, وقرّر الإكتفاء بذلك القدر من العمل والعودة إلى بيته منهيا ليلة لم تكن بالمجدية. إنّه يمقت ليالي المطر. تنهّد وهو يعُدّ حصيلة اليوم من الأوراق و القطع النّقديّة.
- إثني عشرة دينارا وخمس مائة... الحمد لله على كلّ حال.
كانت الطّريق غارقة في الظلمة, وكان المطر ينزل بغزارة, ستارا من وراء ستار؛ وهذا ما حدى بمحسن إلى السّير بسرعة منخفضة درءا منه للمفاجآت. فالطريق على تعبيدها الحديث كانت كثيرة الحفر. أدار زرّ الراديو فأنطلقت منه أصوات متداخلة وأنواع مزعجة من الأزيز. حاول تثبيت الإبرة على الموجة الوطنيّة, فأنبعثت من الجهاز قطعة موسيقيّة، كئيبة النغمات، لفرقة الرشيديّة.
بينما كان محسن على وتيرته تلك, إذ بشبح امرأة أو رجل – لم يستطع محسن تبيّنه من شدّة الظّلام والمطر – يقف على حافّة الطّريق ملوّحا نحو سيّارة الأجرة بكلتا يديه باضطراب المستنجد. ما لبثت السيّارة أن اقتربت من الشّبح, حتّى تبيّن لمحسن بأنّها امرأة. لم يتوقّف؛ بل واصل سيره, إصرارا منه على تصميمه عدم أخذ زبون آخر مهما كان. ثمّ إنّه فكّر بعض الشيء وهو يبتعد عن الشّبح, فتساءل: "لا... لا. إنّها امرأة, لا يمكن أن أتركها وحيدة وسط هذا الخلاء الموحش في ليلة كهذه". توقّف عن السّير مديرا رأسه نحوها, فإذا بها الآن وسط الطريق وقد أسبلت يديها مكتفية بالنظر إلى السيّارة. بدأ محسن في التقهقر إلى الوراء حتى عاد قبالتها. فتحت الباب الخلفي وتهاوت جالسة متوسّطة المقعد مغمغمة بعبارات لم يتسنّى لمحسن التقاط غير:
- "أخيرا... عدتَ!
- ماذا!؟
- كنت واثقة من أنّك سترجع...
سألها محسن بنوع من الحزم الأبوي, وهو يستعدّ للسير من جديد:
- " ما الذي حدث لكِ؟ ماذا تفعلين في ساعة كهذه وفي مثل هذا المكان المقفر؟"
لم تجبه. كانت غائبة نوعا ما.لاحظ محسن بأن يداها ترتعشان, فقال لها:
- "هدّئي من روعكِ... أنت الآن في مأمن.
- خذني إلى بيتنا... أرجوك! لا تتركني هنا... أمّي تنتظرني... وهي بلا شكّ قلقة جدّا... سأشعر عندها بالاطمئنان وبالرّاحة."
كانت لاهثة ومرتبكة, وكان شعرها الأسود الطويل المبلّل قد انسابت جدائله على ظهرها وعلى جزء من وجهها, ممّا حدا بمحسن إلى إشعال الضوء الدّاخلي حتّى يتسنّى له رؤيتها عن كثب, عبر مرآته العاكسة. تبدّت له في مقتبل العمر, لا تتجاوز العقدين والنّصف, على أكثر تقدير.
حاول محسن أن يقطع الصمت المخيّم داخل السيّارة - فحتّى موجة الرّاديو تداخلت فيها الأصوات قبل أن تتلاشى تاركة المكان لأزيز غريب ومتواصل, بالرغم من محاولاته تثبيت الإبرة من جديد – فقال متنهّدا:
- "لقد أنهيت شغلي, وكنت قد عزمت على العودة إلى بيتي... قاطعته قائلة:
- سوف لن أنسى لك فضلك...سوف لن أنسى...
- أين تقطنين؟
أجابت بنوع من التردّد الذي لا ينبئ بخير:
- في حيّ الزهور... نعم هكذا... حيّ الزهور... نهج 3004, بيت عدد 18."
تنفّس محسن الصّعداء, وقال مبتسما:
- " حسنا! حيّ الزّهور لا يبعد عن مقرّ سكني."
في الطريق, كانت صامتة. باءت محاولات محسن استدراجها للثرثرة بالفشل؛ وإن أصرّ على معرفة أسباب وجودها في ذلك المكان وفي تلك السّاعة. كانت أجوبتها مقتضبة ومبهمة بعض الشيء, وفي الخلاصة غير مقنعة. بدأت ترتجف من البرد وقد تبلّلت ملابسها الغير ملائمة لفصل الشّتاء. شعر محسن بذلك وهو يرمقها, بين الفينة والأخرى, عبر المرآة العاكسة, فناولها معطفه السّميك قائلا:
- "ضعي هذا المعطف على كتفيك في انتظار وصولنا إلى البيت.
- شكرا... شكرا... ثمّ أضافت بعد لحظات من الصمت, أنت طيّب القلب... أنت ابن حلال".
بعد ساعة من البحث, وصل محسن, أخيرا, أمام العنوان المذكور. لم تكن الفتاة متأكّدة من الطريق. تعلّلت باللّيل وبالمطر وبعدم تعوّدها عليه بالسيّارة.
قالت له وهي تتبيّن الطريق كمن عاد من سفر طويل:
- " كلّ شيء قد تغيّر في الحيّ...
- نعم!؟ ماذا تقولين؟
- أعني مع هذه الأمطار وهذا الظلام!
- أنت محقّة... في اللّيل تختلف المناظر والأشياء... كثيرا ما يحدث لي أن أضيع ليلا في أماكن أعرفها جيّدا بالنّهار".
نزلت الفتاة من السيّارة واتّجهت ببعض تردّد نحو باب المنزل. قال محسن محدّثا نفسه, وقد توارت الفتاة عن عينيه:" سوف تعود بعد دقائق, فأستعيد معطفي... إذا أرادت دفع بعض المال, فلا بأس, سآخذه."
أوقف محسن محرّك السيّارة, وأطفأ أنوارها, ثمّ أرخى برأسه إلى الوراء, مغمضا عينيه وقد أنهكه التّعب. نظر إلى ساعته للمرّة الثانية. مرّت الآن ربع ساعة ولم تظهر الفتاة بعد. بدأ الضجر يتملكّه. قال متململا:
"- هكذا الحال! تؤدّي خدمة إنسانيّة إلى محتاج, فتصبح أنت المطلوب! سأنتظر قليلا..."
مرّت الآن نصف ساعة. نزل محسن من السيّارة واتّجه نحو الباب. تردّد بعض الشيء, ثمّ طفق يطرق برفق. انتظر قليلا؛ وكان المطر ينزل بشدّة. ها هو الآن يطرق الباب بضجر وبشدّة. بعد دقائق معدودات, اشتعل نور باهت لمصباح كهربائي معلّق فوق الباب. تنفّس محسن الصّعداء. فُتح الباب وظهرت من خلال فجوته امرأة عجوز, دلّ مظهرها على أنّها انتزعت من النوم انتزاعا... كان الذّعر باد على وجهها الكثير التّجاعيد. نظرت إليه بريبة وسألته:
"- تفضّل! ماذا تريد يا بنيّ؟" احتار محسن فيما يمكن أن يقوله في مثل هذا الموقف. قال في نفسه:"إنّها لا تسخر مني؟" ثمّ متوجّها بالكلام إلى العجوز:
"- ابنتك, أو حفيدتك, لا أدري... لقد أوصلتها بسيّارتي, وأعطيتها معطفي لتقي نفسها من البرد... كانت مبلّلة... قالت لي "انتظرني, سأعود إليك بالنّقود وبالمعطف..." أجابت العجوز, بعد لحظات من الصمت:
- ماذا تقول؟ لا... لا يا بنيّ, أنت مخطىء. لم يدخل أحد إلى هنا!"
فتح محسن عيناه متعجّبا وقد داخله بعض الشكّ. نظر حواليه, لعلّ الأبواب تشابهت عليه, فأخطأ بالفعل. سألته العجوز قبل أن ينبس بكلمة:
- هل أنت متأكّك من البيت؟ ربّما دخلتْ إلى أحد البيوت المجاورة.
أجابها وهو يتأمّل بدقّة رقم البيت:
- كلاّ! أنا متأكّد... هذا هو البيت... هذا هو رقمه الذي ذكرته لي... عدد 18, نهج 3004... أنا لست مجنونا, ولا أقبل بهذا المزاح. أنا منهك وأرغب في العودة إلى بيتي... ثمّ أضاف بنوع من التوسّل, أعيدوا لي معطفي لا حاجة لي بالنّقود!
- يا بنيّ! من أين أعرفك لكي أمازحك؟ أقول لك لم يدخل هنا أحد... ولا بنات لي ولا حفيدات, وأنت تحدّثني عن معطفك؟ أضافت بنبرة أقلّ حدّة, أعيش بمفردي في هذا البيت.
سكتت. وسكت محسن مخمّنا حيرانا. أضافت العجوز بتردّد:
- ربّما هي الخمرة يا بنيّ! إنّها تخرج المرأ عن الصواب...
تمالك محسن نفسه من فورة الغضب التي انتابته, وقال مبتسما:
- يا أمي العزيزة... أعوذ بالله من الخمر... أنا لست سكرانا... والله لم لم تدخل فمي قطرة واحدة منها.
جذبت العجوز رداءها إلى عنقها قائلة:
- لا أريد أن أمرض, فالليلة قارسة. إسمعني جيدا يابني... إبنتي الوحيدة ماتت منذ سنوات عديدة, وليس لي غيرها.
سكتت قليلا ثم أضافت متنهدة:
- هل أرحتك الآن؟
- المعذرة... المعذرة يا أمي... سامحيني... قد أكون مخطأ... أستودعك الله... تصبحين على خير.
- تصبح على خير يا بني.
وأغلقت الباب.
لايدري محسن كم مكث واقفا, أمام بيت العجوز, مذهولا لا يقوى على الحركة. في البيت, لم يتمكن من إغماض عينيه, إذ لم تغادر صورة الفتاة مخيلته. لم يجرأ حتى على رواية الحادثة لزوجته.
لم يشغل مصطفى إشارة العداد حتى لا يستوقفه حريف. إتجه رأسا صوب حي الزهور. أثناء الطريق, أشعل السيجارة تلو الأخرى, وقد باتت تتردد في نفسه, رغما عن أنفه عبارة واحدة: " أريد الحقيقة... أريد معرفة الحقيقة ".
طرق الباب. خرجت العجوز. تعجبت حين وجدته أمامها مصفر الوجه, منتفخ العينان.
- هو أنت؟
- لم أنم البارحة... أنا متأكد أن الفتاة التي رافقتها قد دخلت هذا البيت.
فتحت العجوز الباب موسعة له الطريق:
- تفضل يا بني... سنتحدث بالداخل.
جلس محسن في غرفة الإستقبال, وتركته العجوز لكي تحظر القهوة. ما أن غابت حتى انتابه شعور غريب: مزيج من الرهبة والقلق. أحس بحظور ما, كأن لم يكن وحيدا في الغرفة... كأن أعينا تراقبه... كأن أصواتا خافتة ومبهمة تناديه. بدأت وتيرة تنفسه تتسارع وتشكلت على جبينه حبات عرق. أخذ يجول ببصره في أرجاء الغرفة. فجأة ارتعدت فرائسه, واشتد خفقان قلبه حين وقع بصره على إطار معلق خلفه على الجدار... " إنها هي... الفتاة... نعم هذه صورتها... "
عادت العجوز وقد أصبح وجه محسن ممتقعا أكثر من ذي قبل.
- مالك يا بني؟ لا بأس؟
- ماذا؟ نعم... لا بأس... لا بأس.
إحتسى القهوة بعصبية. سألها ونظره منشدّ إلى الإطار:
- أهذه إبنتك؟
- أجل... رحمة الله عليها.
- ماذا تقولين؟ أنا سأجن... هذه هي الفتاة التي اصطحبتها بالأمس... والله إنها هي بعينها، أنا واع بما أقول.
تهالكت العجوز على أريكة، وتنهّدت قائلة:
- يا بنيّ! العن الشيطان، أخزاه الله! تلك ابنتي الوحيدة، فلذة كبدي، فقدتها وهي في ريعان شبابها...
- ماذا تقولين؟ هذا أمر غير معقول!
- أجل! كان حادثا أليما. توقفت عن الكلام لتكفكف الدمع؛ ثمّ أضافت مسترسلة، غير مكترثة لما أصاب سحنة محسن من امتقاع وشحوب. صدمتها سيّارة في ليلة ممطرة، ولم يتوقف صاحب السيارة، بل تركها تنزف إلى أن فارقت الحياة... كان ذلك قبل عشرون عاما. ما أسرع الأيام! كأنّنا بالأمس. اشرب قهوتك ما دامت ساخنة.
امتدّت يد محسن، مرتعشة، نحو الفنجان. قالت له العجوز وهو يحاول ترشفّ القهوة، وقد استقرّ نظره على الإطار المعلّق على الجدار، قبالته:
- خذني إلى المقبرة، إذا كان لديك فسحة من الوقت، لقد أثرت يا بنيّ أوجاعا فيّ قديمة، ولا بدّ لي من زيارتها... وبذلك تزول شكوكك ويهدأ روعك فيعود إليك شاهد عقلك.
ركن محسن السيارة في الموقف المخصّص للزّائرين ودخل صحبة العجوز إلى مقبرة الجلاّز. بعد مدّة من السّير عبر الممرّات الملتوية، توقّفت العجوز مشيرة إلى جهة تزدحم فيها القبور.
- قبر بنيّتي يقع هناك، خلف تلك النّخلة. تعالى حتّى تراه بأمّ عينك، واسندني فالمكان وعر.
سارا عبر القبور؛ بعضها كان قديما، انقطع عنه زائروه, وبعضها الآخر نمّ البياض الناصع فيه على حداثة عهده. توقّفت العجوز، وتوقّف محسن، وقبل أن تشير إلى قبر الفتاة، سقط محسن على ركبتيه صارخا:
- يا إلاهي... هذا معطفي ملقىً فوق القبر... لقد قلت لكِ أنّني اصطحبتها إلى البيت... هذا معطفي... هذا معطفي... إنّها هي... هي...
كان محسن يردد تلك الكلمات وهو يبكي ويرتعد. ولم تجد العجوز ما تقوله غير:
- هدّئ من روعك يا بنيّ... العن الشيطان... اتلو قرآنا...
خرج محسن من المقبرة يجرّ معطفه، غير آبه لم حوله. لم يأبه حتّى لسيّارته، بل اتّجه رأسا، وهو يردّد عبارات مبهمة، إلى أقرب قسم للشرطة.
Cauchemar
Nouvelle de Tayeb Jaouadi (Tunisie)
Traduite de l’Arabe par Saïd M. Jendoubi (Tunisie)
Mon visage ne ressemblait pas à celui que je découvris sur la glace ce matin !
En effet, je m’aperçus qu’il était sombre, triste, rempli de plis et de rides, dépourvu de toute vie. Les yeux étaient, on ne peut plus, exorbités. Leur lumière s’est éteinte ou presque ; et sur les joues, les larmes ont creusés de noirs sillons, zigzagant à travers une large partie du visage !
Les lèvres se sont affaissées, laissant voir une bouche, où ne subsistaient que quelques dents noires, mangées par les caries !
Je frictionnai mes yeux énergiquement, je fais couler le robinet, je remplis le lavabo d’eau froide et j’y enfonçai la moitié de ma tête. Lorsque je regardai la glace de nouveau, il y avait encore ce visage qui m’était inconnu…
J’appelai au secours, ma femme Fatima ; qui, en apercevant mon visage étrange, lança un cri d’horreur !
J’essayai de l’empêcher de crier davantage, en lui appliquant ma main sur la bouche et en l’attirant vers l’une des chambres isolées ; mais quand elle reprit ses esprits, elle cria de nouveau tout en montrant mon visage du doigt. Je le tâtai des deux mains et je découvris que des milliers de vers gluants, traversaient tous les orifices de ma tête !
J’appelai un ami médecin, qui ne tarda pas à venir. Il me posa quelques questions, après quoi il m’affirma qu’il existait une seule et unique chance, pour retrouver mon état normal : ne plus regarder les informations.
Il avait raison. J’avais passé une majeure partie de la nuit précédente à suivre les nouvelles de Gaza, d’Irak et du Liban.
الكابوس
بقلم الأستاذ الطيب الجوادي
لم يكن وجهي، ذلك الذي طالعني في المرآة هذا الصباح!!
كان مربدّا، كئيبا مليئا بالغضون والتجاعيد، خاليا من أي حياة !!والعينان غائرتان جدا، وقد خبا ضوؤهما أوكاد وعلى الوجنتين حفرت الدموع أخاديد سوداء متعرجة تكاد تغطي أكثر الوجه !!
والشفتان قد تدلتا لتبينا عن فم خال إلا من بعض أسنان سوداء نخرها السوس !!
فركتُ عيني بعنف، فتحت الحنفية، ملأت الحوض بالماء البارد، أغرقت نصف رأسي في الحوض وعندما تطلعتُ في المرآة، كان هناك على المرآة، ذلك الوجه الذي لا أعرفه ...
استغثتُ بفاطمة زوجتي، التي أطلقت صرخة فزع بمجرد أن رأت الوجه الغريب!!
حاولتُ أن أمنعها من الصراخ فوضعت يدي على فمها وجررتها إلى إحدى الغرف النائية، حين استعادت وعيها بعد لحظات، صرخت مرة أخرى وهي تشير إلى وجهي، وحين تلمسته بكلتا يدي اكتشفت أن آلاف الديدان اللزجة كانت تنفذ من كل الفتحات في رأسي!!
طلبتُ صديقي الدكتور الذي حضر على الفور، وبعد أن وجه لي بعض الأسئلة قال لي جازما هناك فرصة وحيدة لتعود كما كنت :أن تترك متابعة الأخبار
وكان محقا، فقد قضيت أكثر الليلة السابقة أتابع أخبار غزة والعراق ولبنان.
عودي من حيث جئتي...
عرفته وأنا طفل دون العاشرة. كنت آنذاك في بدايات ولعي بالمطالعة, وكان عبد الله الكيلاني المثقّف الوحيد في حيّنا. ما أن علم من أمّه, التي كانت كثيرة التردد على بيتنا, شغفي بالقراءة, حتّى طفق يعيرني كتب المغامرات من مثل سلسلتي "زومبلا" و"بلاك". كانت كلّها بالفرنسيّة, فجاءت لتكمّل ما كنت أقرأه بالعربيّة من مغامرات. لا أدري كم دام هذا التبادل الثّقافي, ولكنني متأكّد بأنّه انقطع بدون سابق إنذار, وبأنّ هذا الانقطاع خلّف في نفسي شعورا قاسيا بالحرمان.
علمت ذات يوم من أمّ عبد الله وكانت يومها قد جاءت لملاقات والدتي شاكية باكية, مفضفضة لما في قلبها من هموم, بأنّ ابنها الوحيد عزم السفر إلى فرنسا لإتمام دراسته. لم يثني التوسل ولا الدموع عبد الله عن عزمه. سافر, ولم أره منذ ذلك اليوم, ولم يبقى طافيا على سطح ذاكرتي إلاّ بقايا متناثرة من صورة الشاّب المؤدّب وبعض من مغامرات "زومبلا" و"بلاك".
مرّت بضع سنوات, وظهر عبد الله في حيّنا من جديد. كانت ملامحه قد تغيّرت, وكذلك هندامه وطريقة كلامه. ظهرت معه أيضا فتاة جميلة شقراء, عرفنا منذ الوهلة الأولى أنّها فرنسيّة, وعلمنا بعد التّحرّي (وهي صناعة شديدة الانتشار في حيّنا) أنّها خطيبته. وتمزّقت مشاعر والدته بين الفرحة بملاقات وحيدها الحبيب وبين الخوف من أن تصبه وصاحبته عين سوء (وهو من أسلحة الدمار الشّامل التي يملكها أهل حيّنا). ثمّ غاب عبد الله من جديد بعد شهر قضّاه عند والدته, وبقيت صورة واحدة له في مخيّلتي حينما رأيته صحبة خطيبته الفرنسيّة الجميلة الشقراء, وبيديهما مضربين لكرة التنّس, وعليهما ملابس رياضيّة جميلة.
وبعد سنوات طويلة نسيت خلالها عبد الله, ونسيه كذلك أهل حيّنا, ولم يعد يذكره غير والدته الملتاعة المقهورة, غبت بدوري عن الحيّ. وفي إحدى العطل الصيفيّة, وعند مغادرتي لمسرح الهواء الطلق مع أحد الأصدقاء, اعترض طريقنا رجلا مترنّحا, تبدو عليه آثار السّكر. سلّم علينا بمزيج من التلعثم والابتسام, ثمّ سألنا عن السّاعة. أجبناه, ثمّ واصلنا طريقنا بالرّغم من محاولاته تجاذب أطراف الحديث معنا. توقّف عن السير مستندا إلى عمود كهرباء, وأخذ يلوّح لنا بيده مودّعا ومغمغما:
- إلى اللقاء... أوروفوار... أولاد... بلدي... هل معكم سيجارة؟
سألت صديقي:
- من هذا؟
- دعك منه!
قال لي صديقي وقد ابتعدنا عن الرّجل:
- هذا سكّير, عربيد, يقال له عبد الله الكيلاني. هو على هذه الحال منذ عاد نهائيّا من فرنسا.
تذكرته. كتمت في نفسي ما انتابني من حيرة ومن خيبة أمل. أثناء تناول فطور الصباح, أخبرت أمّي بما شاهدت البارحة, فقصّت لي حكاية عبد الله الكيلاني من ألفها إلى ياءها:
"يا بنيّ أطلب اللّطف! لقد هاجر عبد الله ذلك الشّاب الرّصين المؤدّب إلى فرنسا حيث تزوّج من فرنسية وأنجب منها بنتا. ولكن زوجته سرعان ما انقلبت عليه, فطلّقته وطردته من البيت, محتفظة بالبنت. انسدّت في وجهه الأبواب فلجأ للشّراب, وربّما لأشياء أخرى أدهى وأمرّ. يقال أنّه طُرد من فرنسا ولم يعد له الحقّ في دخولها من جديد. لا أدري ما الذي فعله هناك. وهو على الحال التي رأيته عليها منذ عودته. مسكينة والدته, لقد حوّل حياتها إلى جحيم متواصل".
مرّت سنتان لم أزر فيهما الحيّ. وبمناسبة حفل زفاف أختي, رأيت عبد الله من جديد. كان يومها, كعادته مترنّحا, وقد وضع على رأسه قبّعة "كاوبوي" بيضاء عريضة, ونظّارات شمسيّة سوداء. أغتنم فرصة توقف الجوقة الموسيقيّة عن العزف والغناء لفترة استراحة قصيرة, فتناول الميكروفون وأخذ يغنّي بتلعثم شديد أغنية "جاري يا حمّودة" ولكن بلحن مختلف تماما, أظنّ أنّه لحن "سيدي منصور يا بابا". وانتهت الأغنية المهداة إلى أختي العروس بسقوط عبد الله من فوق المنصّة, التي لم تكن من حسن حظّه عالية جدّا. غادر عبد الله بعد ذلك الحفل وسط تصفيق وقهقهة الجميع؛ وكانت تسندانه والدته العجوز وامرأة شابّة, قصيرة القامة, علمت فيما بعد أنّها زوجته الجديدة.
فلقد قررّت والدته وقد أتعبها المرض وأنهكتها السنين تزويجه حفظا له وصيانة للإرث المتواضع من الضياع؛ فاختارت له إحدى قريباتها. وكانت هذه الأخيرة مقطوعة من شجرة, ولا أمل لها في زيجة أحسن من تلك التي عرضتها عليها العجوز. فالبنت تقدّمت في السنّ, وحظّها من الجمال غير وفير, ولكنّ طيبة قلبها وحسن تدبيرها عوّضاها عن جمالها المحدود. قبل عبد الله فكرة الزواج بها وإن على مضض, وربّما تحت تهديد والدته له بقطع إمداده بالنّقود.
وأصبحت مغامرات عبد الله المتزوّج على لسان الجميع من سكّان الحيّ. ومن أندر ما سمعته أنّه رجع بمعيّة زوجته, ذات ليلة من ليالي الصيف, حيث تكثر الأفراح والحفلات, وكان على درجة من السّكر حتّى أنّه لم يكن يقوى على السّير. وعلى مقربة من البيت توقّفت زوجته للتسليم وللحديث مع بعض الجيران الذين أجبرتهم الحرارة داخل البيوت على السهر على عتباتها, في حين واصل عبد الله طريقه رأسا نحو البيت لقضاء حاجة ملحّة. في الأثناء نسي أنّ زوجته لا تزال بالخارج, فأدار القفل من الدّاخل. وأنهت زوجته حديثها مع الجارات وأرادت الدّخول إلى بيتها فوجدت الباب مقفلا من الدّاخل. طرقت الباب بلطف ودلال, فإذا بصوت عبد الله يأتيها بتلعثم:
- أتجرئين على... العودة إلى بيت... كِ في مث... لِ هذه السّاعة المتأخ... رّة من الليل؟
أجابته وقد بدأ ينفد صبرها:
- عبد الله, إفتح الباب, كفاك مزاحا!
- أنا لا أمزح... لا مكان في هذا... البيت المح... ترم لإمرأة مثلك... لا ... تراعي مشا... عر... زوج... ها.
- عبد الله! كفانا فضائح... إفتح!
- من منّا صا... حب الفضا... ئح؟ عودي من حيث... أتيتِ... عودي إلى من كنت... عنده.
ولم يفتح عبد الله الباب إلاّ بعد ساعة كاملة من المفاوضات مع عقلاء الحيّ.
فَيَضان
مرت سنة على استقرارنا بالحي، وذات ليلة من ليالي الشتاء، أخذ المطر في التهاطل بدون توقف، وكانت عائلة أحمد مجتمعة كعادتها في ليالي القرّ حول الكانون (الموقد). التصق الولدان بأبيهما تحت عباءة صوفية ثقيلة، واحتضنت آمنة طفلها الرضيع تحت عباءة أخرى. عمّ الصمت فجأة حينما انبعثت من جهاز الراديو موسيقى الجينيريك لبرنامج "حكايات العروي"، لا تصطحبها إلاّ رشقات المطر على النوافذ وزفير ريح عاتية وقرقرة "برّاد" الشاي فوق الكانون.
"كانْ يا ما كانْ، في سالفْ العصر والزمان، أميرْ اسمه علي ولْد السلطان..." وداهم سلطان الكرى أعين آمنة والطفلان، ولم يبق ساهرا مع "العروي" إلاّ أحمد مدخنا سيجارته ومترشّفا الشاي.
فجأة، استفاقت آمنة واضطرب الأطفال على صخب وحركة وأصوات متداخلة تنبعث من مكبر صوت في الخارج، وكان أحمد قد استسلم بدوره للنوم. هزّت آمنة ذراعه وهي منزعجة:
- أحمد.. أحمد.. أفق! ما الذي حدث؟
تململ أحمد وقام ببطئه المعهود. تلفلف بالعباءة واتّجه نحو الباب. وما هي إلاّ دقائق معدودات حتى عاد مسرعا وعلى وجهه ارتباك:
- هيّا! ألبسي الأولاد ولنغادر البيت.. لقد فاض "واد مليان".. والمياه على وشك أن تداهمنا.. هيّا أسرعي!
- إلى أين؟ أين سنذهب تحت هذه الأمطار؟
- رجال المطافئ بالخارج.. إنّهم يطلبون من الجميع مغادرة بيوتهم واللّجوء إلى مدرسة "فرحات حشّاد" فهي ذات طابقين..
في الخارج تشكّل خيط مضطرب من الناس؛ اجتثّ معظمهم من النوم اجتثاثا وأُلقي بهم في أتّون الخوف والحيرة.. ظنّوا أنّهم في عداد الهالكين، فغادروا بيوتهم على عجل: هذا وجد نفسه على قارعة الطريق وهو بملابس النوم، وذاك لم يتسنّ له أن يضع حذاءه فخرج وإحدى رجليه حافية. أمّا الأطفال : فمنهم من اشتدّ بكاؤه، ومنهم من تشبّث بأهداب أمّه خوفا من تأخذه الغيلان فتبعده عنها إلى الأبد. كُنتُ بين هؤلاء الأطفال، وكنّا قلّة منهم قد خيّم علينا نوع غريب من الهدوء، ربّما كان يخفي بعض الإثارة والحماس لما يحدث. فالاتجاه ليلا إلى المدرسة، ولأيّ غرض؟ لقضاء الليلة هناك! مع كل أفراد العائلة.. ومع أبناء الجيران.. وربّما يكون ذلك داخل فصلنا بالذّات.. هذا شيء مثير جدّا.. سُرِرتُ لهذا الأمر، وطغت فرحتي المكتومة حتى على الخوف من المياه الجارفة الزّاحفة وراءنا كجيش متلاحم من الغيلان المفترسة.. لأوّل مرّة سنكون داخل فصل دراسي ولكن بدون رهبة من الحظور المخيف للمعلّم بعصاه الغليظة المرعبة.. سنلعب داخل الفصل بين صفوف الطاولات.. سنجلس على مكتب المعلّم.. سنكتب ونرسم كلّ ما نريد بالطباشير على الصبورة..
في المدرسة لم نجد في استقبالنا غير الحارس وبعض من رجال المطافئ وجدران الفصول الباردة.. وَعَدُونا بأغطية صوفيّة وبفُرُش وبالقهوة وبحليب للأطفال وبالخبز وبالجبن..
- "ستأتي المؤن بعد ساعة على أكثر تقدير.."
فانتظرنا ساعة.. فساعات.. انتظرنا إلى انبلاج الصبح.. ولم نر شيئا. حتى أحلامنا باللعب داخل الفصل بدّدها البرد، وما لبث الأطفال أن لجئوا إلى أحضان آبائهم وأمّهاتهم بحثا عن الدفء.
في الصباح، توقفت الأمطار عن التهاطل، و أفسحت السحب الدّاكنة المجال، شيئا فشيئا، لشمس خجلى، فأُذن لنا بالعودة إلى بيوتنا، منهكين من ليلة طويلة كسنة قحط. لم تداهم المياه حيّنا. قالت أمي:
- هذا من لطف الله..
وأضاف أبي:
- لقد توقّفت المياه عند "الديك"*.
سألْته:
- وما "الديك"؟
- ذاك الحاجز التّرابي الذي أقيم زمن الاستعمار.. ملاعين! لقد كانوا يقرأون لكلّ شيء حساب.
خلال اليوم، تناقلت الأنباء غرق العديد من العائلات الفقيرة المنتشرة أكواخها خلال البوادي المحاذية للواد.. وبعد مدّة من الزمن شاهد أهالي حيّنا أغطية صوفيّة وملابس وأحذية وأنواع من الجبن والحليب خارجيّة الصنع، وقد كُتب على الأكياس والكراتين التي تحتويها:"إعانة من الشعب الأمريكي لمنكوبي الفيضانات"، تُباع وتُشترى في الأسواق.
*من الفرنسيّة digue وهو الحاجز الترابي.