انتهت عطلة الصّيف، ولم ينته الصيف. فلقد وقع تقديم "العودة المدرسيّة" بأسبوعين، بعد أن كانت تأتي في بداية شهر أكتوبر.. وهاأنذا أكرّر السنة الثانية إعدادي بعد رسوبي العام الفارط. كلّ أترابي التحقوا بالسّنة الثالثة، في حين وجدت نفسي بين جيل جديد من التّلاميذ، لا أعرف منهم أحدا.. وهذا ما ارتاح إليه والديّا.. فأصدقائي، "أقران السوء"، هم سبب تخلّفي عن النّجاح.. هكذا تحدّث أبي. وأضافت أمّي أنّ النجاح في المدرسة هو الطريق الأوحد للنّجاح في الحياة.. كان لا بدّ لي من التأقلم مع زملائي الجدد. ومن حسن حظّي أنّني رغم رسوبي فلم أكن أكبرهم سنّا ولا أطولهم قامة؛ بل كان فيهم من يكبرني بسنتين وثلاث.. فطريق النجاح هذا كان وعرا، كثير المطبّات والعراقيل.. وكثرٌ هم من كانوا يسقطون على الرّصيف.
كان أوّل درس لنا مع أستاذ التّربية الإسلاميّة، الذي ابتدأ حصّته بدرس في الأخلاق.. أو بالأحرى بما يجب أن يتحلّى به التلميذ داخل الفصل من الخصال. "لا كلام قبل الإذن به من قِبل الأأستاذ"، "لا تشويش"، "لا ضحك بدون سبب"، الخ.. الخ.. وبينما كان الأستاذ مستطردا في سرد قائمة الواجبات والممنوعات، إذْ بذبابة من ذباب الخريف المؤذي (ذباب ثقيل الظلّ، لا يعرف قدره بالنشّ، ولا يفهم إلاّ لغة الرشّ) تغتنم فرصة فتح الأستاذ لفيه للنطق، لتستقرّ في أعمق أعماق حلقه! عندها توقّف هذا الأخير عن الكلام، وقد تسمّر في مكانه كتمثال من الشمع، واحمرّ وجهه، وغارت عيناه.. وعمّ الفصل الصمت فلم نعد نسمع إلاّ طنينا حائما مهدّدا بغارات جويّة أخرى.. أغلقنا أفواهنا تحسّبا للخطر الدّاهم، في حين أخذ الأستاذ في الحمحمة والسعال وقد فتح منديله تصيّدا للعدوّ المتسلّل إلى حلقه..
استعاد الأستاذ أنفاسه، بعد أن تخلّص من الذبابة، فتملّكه نوع من الهدوء المريب، وخيّم الصمت من جديد على الفصل. نظر بتقزّز يمنة فيسرة وقال:
"توجد في هذه المدرسة كمّيات مهولة من الذّباب!"
وصار لقب أستاذنا منذ ذلك اليوم.. "ذبابة".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire