يوميّات مدرسيّة (3) قصّة
"وحش" والأستاذة الحسناء
بقلم سعيد محمد الجندوبي
مرّت أيّام، ثمّ أسابيع، وذات صباح كنّا أثناء حصّة الرياضيّات بصدد فتح بعض العمليّات العويصة، وإذا بباب الفصل يُفتح، ليتسمّر أستاذنا بجانب مكتبه، مشيرا إلينا بعينيه بالوقوف. تقدّم المدير، ثمّ القيّم العام وبينهما امرأة في الثلاثين من العمر، تنمّ ملابسها على درجة عالية من الأناقة والأنوثة، وتنمّ نظراتها على درجة أعلى من الصرامة والحزم.. تكلّم المدير قائلا: "ابتداءً من هذا الأسبوع، سينطلق درس التاريخ والجغرافيا من جديد، مع الأستاذة الآنسة نجلاء.." استفاق عنفوان مراهقتنا لسماع كلمتي "آنسة" و"نجلاء"، فاشرأبّت أعناقنا، وانغرست أنظارنا في الأستاذة الجديدة. وربما شعرت هذه الأخيرة بحسّها الأنثوي بوَخَزات في كامل جسدها، فما كان لها إلاّ أن وضعت يدها على أعلى صدرها تتلمّس أزرار قميصها الجميل، في حين واصل المدير كلامه: "طبعا! لا أريد السماع بأيّ نوع من التشويش ومن العبث.. وملتفتا إلى القيّم العام، الذي أخذ في تحريك رأسه بالإيجاب والتدعيم.. سأُتابع هذا الأمر بنفسي!" قال هذا وقد جال ببصره عبر بعض رموز فصلنا ممّن لهم ذكر وصيط لدى الإدارة.
فجأة قطع الصمت المخيّم على الفصل صوت زميل لنا، كان بأقصى القاعة:
- " تَشَرّفنا!.."
وسرى عبر الصفوف تململ مصحوب بضحك مكتوم، ونزّت عيون بعضنا بالدّمع المنبئ بانفجار بركاني داخلي نخشى من انفلات بعض حممه من إحدى الفوهات فتصيبنا حتما.
فلقد كان "وَحْش" – وهي الكنية التي لصقت بزميلنا المرحّب بالأستاذة الجديدة - أكثرنا اهتماما بأحوال النساء، وأكثرنا حديثا عنهنّ ورغبة فيهنّ.. ومع ذلك فقد كان أقلّنا حظّا في كسب ودّ فتيات المعهد.. سُمّي "وحشا" لدمامة خِلقته ولبدائيّة خُلُقه: فلقد كان شديد السّمرة، خشنة قسماته، بدين، طويل الشعر، عدوّه المشط، بذيء كلامه، سيّئة طباعه.. فكنّا نخشى سطوته، ونتحاشى صحبته لما فيها من جلب لا مردّ له لأشدّ العقوبات المدرسيّة.. وأذكر أنّ فكرة تلقيبه بوحش، نبتت في ذهن مبتدعها على إثر درس في التاريخ حضرناه في بداية السّنة الدراسيّة، وكان موضوعه: "فترة ما قبل التاريخ"، وتحديدا "العصر الحجري"!
بعد لحظات طويلة كالدّهر، خيّم الصّمت من جديد، ونُكّست الرؤوس، في انتظار خطر محدق. تقدّم المدير خطوة، وألقى نحو مصدر الصّوت بنظرة تتطاير منها الحمم، ثمّ قال بنبرة هادئة، حانقة، متوعّدة: "أنت! خذ أدواتك وانتظرني خارج الفصل".. مهمه "وحش" بما يشبه الاعتذار والتبرير، ولكنّ المدير قاطعه وهو يقول من جديد وبنبرة أعلى: "أخرج!".. فما كان من التّلميذ إلاّ الإذعان.
تنفّسنا الصّعداء ونحن نعود إلى تمارين الرّياضيات العويصة.. وكانت في العادة هي مصدر همّنا الوحيد. ثمّ إنّ "وحشا" عاد قُبيل انتهاء الحصّة وقد بدت عليه آثار ما لاقاه في مكتب المدير، فلقد كان وجهه مبلّلا وعيناه منتفختان، وقد تدلّى رباط حذائه..
قال لي زميلي بالجوار، "مجقاص":
- لقد أذاقه "الفلقة".. فالمدير لا يعرف وسيلة للتأديب غيرها!
* * *
كانت زوجة مدير إعداديّتنا عراقيّة، ويبدو أنّ أستاذتنا الجديدة، وهي عراقيّة أيضا، إحدى قريباتها، ولذلك ذهب "وحش" ضحيّة مأساة تداخلت فيها الأبعاد التربويّة والروابط الأسريّة والمشاريع الوحدويّة.
(يتبع)
"وحش" والأستاذة الحسناء
بقلم سعيد محمد الجندوبي
مرّت أيّام، ثمّ أسابيع، وذات صباح كنّا أثناء حصّة الرياضيّات بصدد فتح بعض العمليّات العويصة، وإذا بباب الفصل يُفتح، ليتسمّر أستاذنا بجانب مكتبه، مشيرا إلينا بعينيه بالوقوف. تقدّم المدير، ثمّ القيّم العام وبينهما امرأة في الثلاثين من العمر، تنمّ ملابسها على درجة عالية من الأناقة والأنوثة، وتنمّ نظراتها على درجة أعلى من الصرامة والحزم.. تكلّم المدير قائلا: "ابتداءً من هذا الأسبوع، سينطلق درس التاريخ والجغرافيا من جديد، مع الأستاذة الآنسة نجلاء.." استفاق عنفوان مراهقتنا لسماع كلمتي "آنسة" و"نجلاء"، فاشرأبّت أعناقنا، وانغرست أنظارنا في الأستاذة الجديدة. وربما شعرت هذه الأخيرة بحسّها الأنثوي بوَخَزات في كامل جسدها، فما كان لها إلاّ أن وضعت يدها على أعلى صدرها تتلمّس أزرار قميصها الجميل، في حين واصل المدير كلامه: "طبعا! لا أريد السماع بأيّ نوع من التشويش ومن العبث.. وملتفتا إلى القيّم العام، الذي أخذ في تحريك رأسه بالإيجاب والتدعيم.. سأُتابع هذا الأمر بنفسي!" قال هذا وقد جال ببصره عبر بعض رموز فصلنا ممّن لهم ذكر وصيط لدى الإدارة.
فجأة قطع الصمت المخيّم على الفصل صوت زميل لنا، كان بأقصى القاعة:
- " تَشَرّفنا!.."
وسرى عبر الصفوف تململ مصحوب بضحك مكتوم، ونزّت عيون بعضنا بالدّمع المنبئ بانفجار بركاني داخلي نخشى من انفلات بعض حممه من إحدى الفوهات فتصيبنا حتما.
فلقد كان "وَحْش" – وهي الكنية التي لصقت بزميلنا المرحّب بالأستاذة الجديدة - أكثرنا اهتماما بأحوال النساء، وأكثرنا حديثا عنهنّ ورغبة فيهنّ.. ومع ذلك فقد كان أقلّنا حظّا في كسب ودّ فتيات المعهد.. سُمّي "وحشا" لدمامة خِلقته ولبدائيّة خُلُقه: فلقد كان شديد السّمرة، خشنة قسماته، بدين، طويل الشعر، عدوّه المشط، بذيء كلامه، سيّئة طباعه.. فكنّا نخشى سطوته، ونتحاشى صحبته لما فيها من جلب لا مردّ له لأشدّ العقوبات المدرسيّة.. وأذكر أنّ فكرة تلقيبه بوحش، نبتت في ذهن مبتدعها على إثر درس في التاريخ حضرناه في بداية السّنة الدراسيّة، وكان موضوعه: "فترة ما قبل التاريخ"، وتحديدا "العصر الحجري"!
بعد لحظات طويلة كالدّهر، خيّم الصّمت من جديد، ونُكّست الرؤوس، في انتظار خطر محدق. تقدّم المدير خطوة، وألقى نحو مصدر الصّوت بنظرة تتطاير منها الحمم، ثمّ قال بنبرة هادئة، حانقة، متوعّدة: "أنت! خذ أدواتك وانتظرني خارج الفصل".. مهمه "وحش" بما يشبه الاعتذار والتبرير، ولكنّ المدير قاطعه وهو يقول من جديد وبنبرة أعلى: "أخرج!".. فما كان من التّلميذ إلاّ الإذعان.
تنفّسنا الصّعداء ونحن نعود إلى تمارين الرّياضيات العويصة.. وكانت في العادة هي مصدر همّنا الوحيد. ثمّ إنّ "وحشا" عاد قُبيل انتهاء الحصّة وقد بدت عليه آثار ما لاقاه في مكتب المدير، فلقد كان وجهه مبلّلا وعيناه منتفختان، وقد تدلّى رباط حذائه..
قال لي زميلي بالجوار، "مجقاص":
- لقد أذاقه "الفلقة".. فالمدير لا يعرف وسيلة للتأديب غيرها!
* * *
كانت زوجة مدير إعداديّتنا عراقيّة، ويبدو أنّ أستاذتنا الجديدة، وهي عراقيّة أيضا، إحدى قريباتها، ولذلك ذهب "وحش" ضحيّة مأساة تداخلت فيها الأبعاد التربويّة والروابط الأسريّة والمشاريع الوحدويّة.
(يتبع)
1 commentaire:
الفكرة جذابة، و هي ليست بغريبة عني، لأنني عشتها فحسب، بل لأنني أفردتها رواية كاملة، هي تقريبا كل مايمكنني تقديمه كـ"أعمالي". أحببت عبارات كثيرة في هذا النص، خصوصا الجملة الأخيرة، و أيضا "بدائية الخلق"، فلا أجد وصفا أكثر دقة حفا!
فقط ملحوظة بسيطة بشأن فقرة وصف لم أفهم نظامها :
" فلقد كان شديد السّمرة، خشنة قسماته، بدين، طويل الشعر، عدوّه المشط، بذيء كلامه، سيّئة طباعه.." إذ أعتقد أنها كانت أكثر وضوحا لو كتبت على نحو واحد...
في الختام أشكرك
;)
Enregistrer un commentaire